اللبنانيون في مواجهة الخراب

من الصعب العثور على توصيف للوضع اللبناني في القاموس السياسي المتعارف عليه. والأصعب تصوير الواقع المرير الذي يعانيه اللبنانيون كل يوم. ما يجري عملية تخريب متعمدة، تدور على مستويين متوازيين. تخريب يجري على المستوى السياسي، وتقوم به المنظومة الحاكمة لحماية مكتسباتها، ما أدّى إلى تفكك “أوصال الدولة اللبنانية” إلى غير رجعة. وعملية تخريبية واسعة النطاق، تتناول حياة الشعب اللبناني بأسره، وتعمل على تفكيك كل الأسس التي تعتمد عليها حياة الناس اليومية.
أحد وجوه التخريب السياسي الفاقعة عملية عرقلة تشكيل حكومة جديدة البلد في أمس الحاجة لها، لمعالجة الانهيار الاقتصادي والمالي الذي يتفاقم يوماً بعد يوم، ويستنسخ أزماتٍ معيشية لا تنتهي.
كيف يمكن للقارئ العربي أن يفهم أن لبنان كله ينهار ويتهاوى، بسبب خلاف بين معسكر رئيس الجمهورية، ميشال عون (الماروني)، مع رئيس الحكومة المكلف، سعد الحريري (السنّي)، على تسمية وزيرين مسيحيين إلى جانب حصّة الرئيس من الوزراء المحسوبين عليه؟ وكيف يمكن أن يفهم أي قارئ عربي فشل رئيس البرلمان اللبناني، نبيه برّي (الشيعي)، الداعم مساعي الحريري من أجل تشكيل حكومةٍ يرضى عنها الجميع، بسبب رفض النائب جبران باسيل صهر رئيس الجمهورية، وزعيم أكبر كتلة مسيحية في البرلمان، والحليف الأساسي لحزب الله (الشيعي). ولم يقتصر الأمر على الرفض، بل ذهب باسيل إلى أبعد من ذلك، ولجأ الى الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، للتوسط في الخلاف بينه وبين رئيس البرلمان، وضمنياً خيّره بين الوقوف معه أو دعم حليف الحزب (الشيعي) نبيه برّي؟

المخيف أكثر أن هذا كله يجري ضمن صورة الخراب الكبير الذي يعيشه اللبنانيون، وضائقة تزداد يوماً بعد يوم، وتبدو أقرب إلى الضائقة الإنسانية التي يعانيها قطاع غزة بعد الدمار والخراب الهائلين اللذين خلفتهما جولة القتال أخيرا بين حركة حماس وإسرائيل. المواطن اللبناني اليوم أمام خرابٍ كبير وشامل، يتضمن كل أسس مقومات الحياة الدنيا من لقمة العيش والدواء والكهرباء والمحروقات، وسط فوضى اجتماعية وصعود للعنف ومخاوف من فلتان أمني وعودة إلى الاقتتال.
قد يقول قائل إن مشكلة لبنان داخلية، وتعود، في الدرجة الأولى، إلى عجز اللبنانيين عن حكم أنفسهم بأنفسهم، وهم طوال سنوات عاشوا تحت الوصاية السورية، أو حلوا مشكلاتهم بفضل الوساطات العربية. وهذا صحيحٌ إلى حد كبير، لكنه وحده لا يفسّر حجم الخراب الحاصل. فما يجري في لبنان هو أيضاً انعكاس للفوضى التي تعمّ جزءاً من الدول العربية، جرّاء التغييرات في النظام الإقليمي وفي التحالفات، والتبدل في سلم أولويات الدول العظمى. وفي الواقع، ما يشهده لبنان هو من نتائج الصراع الدائر منذ سنوات بين محور الدول المعتدلة السنّية ودول الممانعة بزعامة إيران، وحصيلة دخول لبنان أكثر فأكثر في المحور الإيراني، جرّاء إحكام حزب الله سيطرته السياسية على لبنان، وتحالفه مع التيار المسيحي الأقوى الذي يتزعّمه جبران باسيل، وتبدّل السياسة السعودية إزاء لبنان، وتخليها عن دعمها الزّعامة السنّية التي يمثلها سعد الحريري، والإجراءات المتشدّدة التي اتخذتها ضد الصادرات اللبنانية، بعد كشفٍ عن عمليات تهريب للمخدّرات بواسطتها. وما يجري، في جزء منه، هو من تداعيات انكفاء الولايات المتحدة عن المنطقة، وتراجع أهمية دول المنطقة في سلم أولوياتها الاستراتيجي، بالإضافة إلى ضعف الدور الأوروبي في التأثير في سياسات المنطقة، والفشل الذريع الذي منيت به المبادرة الفرنسية في لبنان. لكن يجب الاعتراف بأن لخراب لبنان علاقة أيضاَ بالوضع الصعب في سورية، وتعثر إعادة الإعمار وتهريب المواد الأساسية من لبنان إلى سورية، وفشل مساعي إعادة اللاجئين السوريين في لبنان إلى بلداتهم وقراهم والعبء الذي يشكّلونه على لبنان في ظروفه الحالية.

يمكن القول اليوم إن الخراب الذي خلفته الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت سنوات طويلة، والدمار الذي تسببت به الحروب الإسرائيلية المتعاقبة على لبنان، لا يوازيان في خطورتهما الخراب الحاصل اليوم في هذا البلد. لبنان اليوم متروكٌ لمصيره الأسود فريسة صراعاتٍ داخلية تافهة على مغانم وعلى حصص وحقوق طوائف. وأي خروجٍ من هذا النفق المظلم لا يبدو متاحاً في الوقت الحاضر.
ولبنان مثل كل الدول العربية التي عاشت خيبة الأمل من الربيع العربي هو أيضاً يعيش خيبة أمل نتيجة عدم تحقيق حركة الاحتجاج الشعبي التي شهدها البلد في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 أهدافها التغييرية. الشعب اللبناني مثل الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، ومثل الشعوب، السوري والليبي واليمني، يدفع ثمناً باهظاً لعجز الطبقة السياسية واستبدادها وفسادها وإخفاقاتها، وللصراعات الإقليمية على النفوذ والتأثير، وتخبط السياسات الدولية حيال المنطقة. واستمرار هذه الفوضى لا بد أن يؤدّي إلى انفجار كبير يزعزع كل شيء.

رندة حيدر

هذا الخبر اللبنانيون في مواجهة الخراب ظهر أولاً في Cedar News.

Read More