“موت صداقة”: خيال علمي وسط أحداث “أيلول الأسود” في الأردن

يهبط كائن فضائي، يتزيّا في ملابس وصورة امرأة في العاصمة الأردنية عمان وسط القتال المحتدم بين الجيش الأردني والمنظمات الفلسطينية في ما عُرف بـ “أيلول الأسود” في عام 1970، حاملا رسالة تحذير من الفضاء الخارجي عن اقتراب البشرية من إفناء نفسها. هذه هي صورة الشخصية الرئيسية في فيلم “موت صداقة” للكاتب والمنظر والمخرج السينمائي بيتر ووَلن، الذي يعد أحد الرموز الطليعية في الثقافة البريطانية، والذي كان هو شخصيا قد عاش تجربة مباشرة وسط هذه الأحداث في الأردن.

فبعد نحو 17 عاما من التجربة عاشها ووَلن في عمان إبّان اندلاع أحداث أيلول الأسود، عاد إلى هذه التجربة ولكن هذه المرة من منظور أوسع يتجاوز آثار التجربة المباشرة ويربطها بخلاصات رؤيته للعالم والوجود وانشغالاته النظرية والجمالية في الحقول المتعددة التي عرف ببحثه فيها كالسيمياء والنظرية الأدبية ونظرية السينما، ويجعل منها وسيلة لإعادة النظر والتمحيص في كثير من مفاهيمنا السائدة عن الوجود والحياة والكون ومستقبل النوع الإنساني وقضايا الهوية والجندر (النوع الاجتماعي) والجسد الإنساني.

واليوم بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود، يعاد بعث هذا الفيلم وتقديمه بوصفه واحدا من تحف وكلاسيكيات السينما الطليعية البريطانية، بعد أن قام معهد (مؤسسة) الفيلم البريطاني بتبني عملية ترميمه وإعداده بنسخة رقمية بالغة الوضوح تصلح للعرض على شاشات 4 كي الحديثة، واحتفي به في هذه المناسبة بعرضه في مهرجان لندن السينمائي رفقة عدد من الندوات والفعاليات التي تسلط الضوء عليه وتحتفي به.

وفيلم “موت صداقة” فيلم طليعي بكل ما تعنيه هذه الكلمة، يتحدى الكثير من المفاهيم الجاهزة والراسخة في أذهاننا عن الجسد والهوية، كما يتحدى القوالب والأشكال الفنية والجنرات السائدة في العمل السينمائي، فالفيلم يحتفي بالهجنة في الأساليب الفنية، ولا يعدم استخدام أي مفردة ودمجها في العمل الفني (المفردة اللغوية المنطوقة والمكتوبة، الصورة، الرسم، الخطوط، الرموز الرياضية، التصميمات الغرافيكية، الصوت بكل تمظهراته : موسيقى، صوت بشري، صوت آلي، ضوضاء وتشويش). ويستند ذلك إلى انشغال نظري ثري في مفهوم العلامة (في السيمياء) وهجنتها قدمه ووَلن، الذي كان من أبرز من قدم تطبيقات هذا الحقل المعرفي في السينما للثقافة الإنجليزية في كتابه الرائد :”علامات ومعاني في السينما”.

كائن بايولوجي أم محاكاة رقمية؟

يمزج ووَلن لصنع سيناريو فيلمه بين قصة قصيرة نشرها عام 1967، ويمكن إدراجها ضمن أدب الخيال العلمي، والتجربة المباشرة التي عاشها في أيلول/سبتمبر في الأردن عام 1970، ويبني مقدمته المنطقية على هذه المزاوجة بين التجربة المباشرة وظلالها السياسية والخيال العلمي وآفاقه التأملية الرحبة، ليعيد النظر في كثير من بديهياتنا ومفاهيمنا السائدة.

ويتجسد ذلك في اختياره لشخصية “صداقة”؛ وهي كائن فضائي بلا جنس، لكنها تظهر في صورة امرأة اختارت أن تسمّي نفسها بهذا الاسم، وتقول إنها أرسلت من مجرة أخرى في الفضاء تحمل رسالة للبشرية تحذرها من أنها توشك أن تفني نفسها. وكان من المقرر أن تهبط في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (أم آي تي) في الولايات المتحدة الأمريكية، وأن تذهب للأمم المتحدة، ولكنها لسبب ما (تقني) هبطت في الأردن وسط القتال الدائر في أيلول الأسود، وانقطع اتصالها بمركزها في المجرة التي برمجتها، وبات عليها أن تتصرف بنفسها الآن ككائن جديد.

  • مهرجان لندن السينمائي: محاكمة ناشطين سود في بريطانيا تهيمن على الافتتاح

ويعثر المقاتلون الفلسطينيون على “صداقة” (تؤدي دورها الممثلة المعروفة تيلدا سوينتون، وكان ذلك ثاني ظهور لها في السينما بعد ظهورها في فيلم للمخرج الطليعي ديريك جارمن) من دون أي اوراق ثبوتيه، فيتقدم سوليفان (يؤدي دوره الممثل بيل باترسون) الصحفي الصديق لهم، ليقول لهم إنه يعرفها، ولتنتقل للعيش معه في نفس الفندق الذي تسيطر عليه منظمة التحرير الفلسطينية.

وعند هذه النقطة يتحول الفيلم إلى حوارية طويلة تدور في مكان مغلق لا يتعدى غرفتين في الفندق بين سوليفان وصداقة عن شتى المفاهيم في الفلسفة والأخلاق والوجود الإنساني والكون، فضلا عن قضايا الهوية والجسد والجندر والمستقبل والأتمتة والعلاقة بين الإنسان والآلة؛ حيث يحاول سوليفان أن يعرف حقيقتها وهويتها ولمن تتبع؟ ليقتنع في النهاية بقصتها ككائن فضائي غير بايولوجي، وأنها ليست روبوتا ولا مجرد آلة، بل نظام محاكاة رقمي انتجته تقنيات متقدمة.

من مالارميه إلى سميح القاسم

ويستغل سوليفان ذهابها في رحلة مع وفد إلى الآثار الرومانية في جرش، ليفتش غرفتها فيعثر على معدات في أشكال بلورية ملونة، فيسرق بعضها، ليكتشف في الليل أنها تشع وتصدر أصواتا وشفرات غريبة (نتبين من بينها مقطع من قصيدة الشاعر الفرنسي ستيفان مالارميه “بعد ظهيرة فون” – إله الغابة والريف)، وعندما تعود يحكي لها فتوضح له أن هذه الأشكال البلورية هي معدات خزن معلومات متقدمة، وهي التي تسجل فيها انطباعاتها. وتهديه واحدة منها للذكرى. ثم تحدثه عما تعرضت له في رحلة جرش من اعتقال بعد مداهمة الجيش لهم في قرية أخذهم إليها مرافقهم الفلسطيني، وإطلاق سراحهم من دونه، وتنقلهم في أكثر من مركز بعد رفضهم الذهاب من دونه.

ومع اشتداد القتال يتدبر سوليفان وثيقة سفر لها (بوصفها مواطنة عراقية من مواليد بغداد) كي تسافر معه إلى بريطانيا ومنها إلى الولايات المتحدة، لكنها ترفض ذلك وتقول له إنهم سيتعاملون معها على أنها مجرد لُقية غنية بالمعلومات ويعرضونها لشتى التجارب والاختبارات للتعرف على أنظمتها التقنية، وتختار بدلا من ذلك البقاء مع الفلسطينيين وسط القتال الدائر بعد حوار ثري مع سوليفان عن كينونة الإنسان وعن الموت أو التضحية والوطن. فتتماهى “صداقة” التي تظهر مرتدية الزي العسكري عند وداعها له مع المقاتلين الفلسطينيين الذين فقدوا وطنهم، لتقول له: “الوطن حيث القلب، ولأنني بلا قلب فلا وطن لي … أريد أن أفهم معنى التضحية، فعلى هذه الأرض التضحية لها معنى، لأن كل يوم هنا هو يوم للموتى” (في إشارة إلى العيد المكسيكي والاحتفالات المسيحية الكاثوليكية بيوم القديسين أو يوم كل الأرواح).

  • شون كونري: جيمس بوند الحقيقي الذي ظل وفياً لجذوره
  • مهرجان لندن السينمائي: “عنف مفرط” نحو 20 عاما في توثيق وفيات سجناء ومعتقلين لدى الشرطة

ويختتم ووَلن فيلمه بمشهد تجريدي يحاكي مشهد الختام في رائعة ستانلي كوبرك “أوديسا الفضاء 2001″، ويحاول فيه أن يتحدى الحدود بين ما هو بصري ولغوي، عندما تتمكن ابنته المهتمة بالكومبيوتر بمساعدة خبير من تحليل محتوى القطعة البلورية الملونة، التي تنتبه إليها عند استذكاره لصداقة بعد سنوات وسؤاله لصديق كان يعمل في الصليب الأحمر في عمان (باتريك باوتشاو) عن مصيرها، وتنقل الفتاة المحتوى إلى شريط فيديو وتعرضه له؛ لينثال على الشاشة أمامنا مزيج من الرموز والصور والأرقام والأشكال الغرافيكية والأصوات التي يفترض أنها تمثل ذاكرة صداقة، وتتخللها عبارة من قصيدة تقول :” ياقاتلي العزيز .. أرجوك أن تسافر”، نقلا عن قصيدة الشاعر سميح القاسم التي استمعنا إليها في مشهد سابق في الفيلم، والتي تقول: “وعندما أُقتل في يوم من الأيام/ سيعثر القاتل في جيبي على تذاكر السفر../ واحدة إلى السلام ../ واحدة إلى الحقول والمطر ../واحدة إلى ضمائر البشر ../ أرجوك أن لا تهمل التذاكر يا قاتلي العزيز ،/ أرجوك أن تسافر”.

محاكاة الواقع الحي

و”موت صداقة” وهو الفيلم الأول الذي يخرجه ووَلن منفردا من دون مشاركة رفيقة عمره لورا ميلفي (الأستاذة الجامعية والمنظرة البارزة في حقول النظرية النسوية ونظرية السينما)، حيث اشتركا سابقا في إخراج ستة أفلام أخرى من أشهرها “ألغاز العنقاء” عام 1977. كما سبق له أن اشترك أيضا مع المخرج الإيطالي المعروف مايكل أنجلو إنتونيوني في سيناريو فيلم “المسافر” الذي مثله جاك نيكلسون وماريا شنايدر وتنافس على السعفة الذهبية في مهرجان كان عام 1975.

PA Mediaاحتفى مهرجان لندن السينمائي بالفيلم وخصصت مديرته تريشا تاتل عدة فعاليات للاحتفال بإطلاق الفيلم المرمم في دورة المهرجان الأخيرة

ويسعى ووَلن في فيلمه هذا إلى تحدي الحدود بين كثير من المفاهيم السائدة عن المكان والهوية والجندر والعرق واللون، فضلا عن الحدود بين البصري واللغوي، وبين الأنواع والجنرات الفنية؛ لينتصر دائما لمفهوم الاختلاط والهجنة مقابل الهويات الخالصة النقية أو الجوهرانية للأشياء، وهو مفهوم نجده حاضرا في بحوثه النظرية بقوة بتركيزه على هجنة العلامة في السيمياء عند الفيلسوف الأمريكي شارل سندرس بيرس، وتأكيده على الطبيعة التعددية (بوليمورفيك) للفن السينمائي وتعددية الأصوات فيه.

لذا نراه يختار شخصية “صداقة” التي كانت مزيجا من الكائن الفضائي الغريب والماكنة والروبوت والمحاكاة الرقمية، لذا فهي تتحدى هذا النموذج في جنرة أدب وفن الخيال العلمي كما تتحدى مفاهيم الجسد الجنس والجندر والعرق والهوية.

إنها كائن يقع خارج كل التصنيفات، فهي الـ “مابين” بحسب وصف الناقد والمؤرخ السينمائي الألماني توماس ألسايسر؛ بين الإنسان والكائن الفضائي وبين السلوك العاطفي والسلوك المبرمج، بين الذكر والأنثى، وكذلك بين الصورة والصوت والذاكرة الحية والمسجلة والبيانات الرقمية التي يعاد انتاجها لتحاكي الواقع الحي “simulation”.

وفي مقابلته بين مصير شخصيته الفضائية هذه والفلسطينيين المبعدين عن أرضهم، (حيث تختار صداقة في النهاية التماهي معهم)، يُشاكّل ووَلن بين مفهومي ما هو كوني أو خارج أرضي (extra-terrestrial) وماهو خارج حدود الدولة أو الإقليم في مفهوم (extraterritorial)، المفهوم الذي بات يستخدم في بعض الكتابات السياسية، لاسيما في إحالاته القانونية، لوصف أزمة الفلسطينيين النازحين والمبعدين عن ديارهم.

وقد أحب الكاتب والمُنظّر الفلسطيني إدوارد سعيد، فيلم ووَلن كثيرا عند مشاهدته إياه وكتب عنه بحماس شديد مقالا في مجلة “نيشن” في مايو/أيار عام 1988، واصفا منجز وولن بالمميز جدا ومشيدا بما يسميه نبل ونقاء عمله الجرئ، لاسيما وأنه يأتي من شخص غريب ومن خارج القضية. وقد أعاد نشر المقال في كتابه بالإنجليزية “سياسة السلب”.

  • محمد علي كلاي ومالكوم أكس وأمة الإسلام في “ليلة في ميامي”

لقد تطورت شخصية صداقة بين وجودها الأولي كرجل فضائي أبيض في القصة القصيرة التي كتبها وولن في الستينيات إلى صورتها كمحاكاة رقمية في صورة امرأة في الفيلم في الثمانينييات، بما يعكس تطوره النظري في سياق اهتمامه بالنظرية النسوية “الفيمنست ثيوري”، التي تعد رفيقة عمره ميلفي أحد أبرز رموزها.

كما تعكس أيضا تطورا في نظرة ووَلن لجنرة الخيال العلمي، ومحاولته تقديم نموذج يتجاوز ذلك النموذج السائد في أدب الخيال العلمي، في صورة الكائن الفضائي الذكوري الأبيض، في الغالب، القادم من الفضاء الخارجي نذيرا للبشرية، وهو ما يراه البروفسور كوجيو أوشن في الندوة التي أعقبت عرض الفيلم في مهرجان لندن السينمائي بأنه نموذج ينتمي إلى حقبة الحرب الباردة، سعى وولن إلى استبداله بنموذج خيال علمي مضاد للإمبريالية، بحسب تعبيره.

وولن مخرجا

حرص وولن على أن يجعل من فيلمه هذا موشورا يلم الأشعة المتعددة لاهتماماته النظرية وخبراته العملية المختلفة والعابرة للحقول المعرفية والمنهجية (انترديسبلنري)، فهو ناشط سياسي وكاتب مقالات سياسية وصحفي وناشط يساري، وباحث وأستاذ أكاديمي مرموق ومنظر طليعي في الفنون البصرية ونظرية السينما والسيمياء.

فنراه يقدم ممارسة فيلمية يستثمر فيها الكثير من خلاصات بحثه النظري الثري في نظرية السينما، ويلعب على الحدود بين اللغوي والتأملي -الذهني و المرئي والملموس، وهكذا نراه يستثمر في فيلمة علامات مختلفة: كالكلمة المنطوقة والمكتوبة، والأشكال الغرافيكية، والأرقام والرموز المختلفة، إلى جانب عناصر التعبير السينمائي المعتادة في الصورة السينمائية، وحضور الأداء التمثيلي في قلبها.

لقد نجح وولن كمخرج في إدارة ممثليه (وهم محدودون لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة)، وتحديدا إدارة ممثليه الرئيسين، حيث تألقت سوينتون في دور “صداقة” في تقديم ذلك الأداء الحيادي الذي لا يميل إلى جنس أو هوية جندرية أو عرقية معينة، فكانت تتحدث بلغة لا تحمل أي لهجة أو لكنة تدل على مكان، وتؤدي بحيادية وبرود وهدوء، يتناسب مع طبيعة الشخصية الخارجة عن التصور البيولوجي الإنساني بوصفها “تجسيدا لنتاج محاكاة رقمية”.

وفي الحقيقة كانت سوينتون أمام مهمة شاقة جدا، وهي كيف تجسد مثل تلك الشخصية الغريبة، من دون أن تقع في نمط من الأداء الآلي، الذي تُجسد فيه عادة شخصيات الروبوت أو الكائنات الفضائية الغربية، أو تقديم أداء كاريكاتوري للشخصية، أو تحميلها شحنة عاطفية لا تحتملها. لقد نجحت سوينتون في إعطاء هذه الشخصية تجسيدا مقنعا، وفي فرض مناخ من التعاطف مع هذا التجسيد، فبدا تماهيها مع الشخصية الإنسانية بكل كثافتها العاطفية وانفعالاتها مقبولا ومبررا، كما هي الحال في المشاعر التي تنتابها عند ضرب سوليفان بقوة على مفاتيح الآلة الكاتبة، لتذكره بقرابتها هي مع الآلات وبتماهيها مع مصيرها بوصفها كيانات مستعبدة من الإنسان، أو بحديثها عن تجربتها مع استخدام المنظفة للمكنسة الكهربائية في غرفة الفندق.

وشكل باترسون في دور سوليفان؛ بشخصية الحيوية الممتلئة بمشاعر التضامن والتعاطف والمحملة بشحنة سخرية عالية، ثنائيا رائعا مع سوينتون، فلم نشعر بأي ملل جراء حضورهما هذا على الرغم من أن الفيلم يدور في مكان مغلق وتحتل المشاهد الحوارية بينهما معظم زمنه.

“فيلم بلا جواز سفر”

وأعطى ووَلن للحوار أهمية كبيرة في فيلمه، الذي اهتم بالحجاج المنطقي وتبادل الححج في النقاش المحتدم طوال الفيلم بين الشخصيتين الرئيسيتين فيه، في مكان مغلق لم يتجاوز الغرفتين، وإذا كانت الظروف الانتاجية هي الدافع الرئيسي وراء ذلك في مثل هذا الفيلم (منخفض الميزانية) الذي صور في مدة أسبوعين داخل الاستوديو، بعد أسبوع واحد فقط من تدريب الممثلين على أدائه، فأن الدافع الثاني وراءه هو خيار فكري لدى مخرجه الذي حرص على تعليق المكان الحقيقي وجعله شبحيا نمر عليه في صور أو مشاهد وثائقية محدودة، لمصلحة المكان الذهني الذي نشهد فيه جدلا محتدما عن الدوافع الأخلاقية وعن التفسيرات الفلسفية والخيارات الفكرية التي تتخذها شخصياته وسط هذا الواقع المأزوم.

لقد ترسم وولن نهجا تغريبيا برختيا (نسبة إلى المخرج المسرحي الألماني برتولد برخت) صافيا، في فيلمه الذي غلب عليه الطابع المسرحي الحواري أيضا، وهو خيار مقصود من مفكر تشغله الححج الذهنية والخيارات الفكرية. لقد وصف مدير تصوير الفيلم، فيتولد ستوك، في ندوة أعقبت عرضه: كيف أن ووَلن كان في كثير من الأحيان لا يراقب الصورة بل يطرق ناظرا إلى الأرض مركزا بعمق على سماع حوار الشخصيات.

  • “أرامل” ستيف ماكوين يفتتحنَّ مهرجان لندن السينمائي

بيد أن ذلك لم يمنعه من الحصول على فيلم ذي غنى بصري رغم وقوع أحداثه في مكان مغلق، إذ نجح ووَلن عبر التخطيط المسبق مع مدير التصوير، ستوك، في رسم مسارات حركة الشخصيات في ما يشبه التصميم “الكوريوغرافي” لراقصين على مسرح؛ مع استثمار كل الإكسسوارات والتفاصيل الصغيرة في الغرفتين اللتين دارت فيهما الأحداث، واستعمال المرايا لعكس حركتها وتوفير عمق أكبر في المجال، فضلا عن الإكثار من اللقطات القريبة التي ترصد انفعالاتها.

وأخيرا، نقول إنه، للأسف الشديد، لم يسلط الضوء على فيلم “موت صداقة” وجهد ووَلن النظري والسياسي بشكل جيد في منطقة الشرق الأوسط والبلدان العربية، على الرغم من اهتمامه بهما وبقضاياها لردح طويل من حياته المهنية ونشاطه السياسي والفكري؛ منذ ستينيات القرن الماضي حيث تعاون مع الحركة الطلابية في إيران وزياراته التضامنية اللاحقة للشرق الأوسط. وعلى الرغم من الخلاصات الفكرية والنظرية والجمالية الغنية التي يفيض بها الفيلم العابر للحدود بكل أشكالها، فهو فيلم إنساني خالص بكل معنى الكلمة و”فيلم بلا جواز سفر”، وهو مصطلح سكه ووَلن واقترح اعتماده في مؤتمر في كندا مطلع التسعينييات.

هذا الخبر “موت صداقة”: خيال علمي وسط أحداث “أيلول الأسود” في الأردن ظهر أولاً في Cedar News.