هل حقاً ستقدم الحكومة على تلزيم ثلاث محطات للغاز، في الوقت الذي يحتاج فيه البلد إلى محطة واحدة أو اثنتين في الحد الأقصى؟ وهل حقاً تريد الحكومة دفع ما يزيد على مليار دولار إضافية، فيما البلد يقف على حافة الإفلاس؟ حتى اليوم، كل الخيارات مفتوحة أمام اللجنة الوزارية المعنية بمناقصة محطات الغاز. فهل ترجَّح كفة المحاصصة على المصلحة العامة؟الحكومة في وادٍ، والواقع في وادٍ آخر. حتى الجهات «المُقرِضة» صارت تعبّر عن ذهولها من الازدواجية اللبنانية في التعامل مع الأزمة المالية التي تزداد شراسة. كل المناشدات والضغوط الخارجية لضبط الإنفاق وخفض العجز، لا تُصرف إلا في ضرب القطاع العام، وتحميل الفئات الضعيفة تبعات التقشف. أما الصفقات التي بمليارات الدولارات، فباقية.
في مناقصة محطات الغاز (بواخر إعادة الغاز السائل إلى طبيعته الغازية)، لا يزال النقاش على حاله. أيهما أهم: حماية «كانتونات الغاز» أم خفض الإنفاق بأكثر 100 مليون دولار سنوياً، هي الكلفة الإضافية التي يُمكن توفيرها (عند شراء الكمية نفسها من الغاز) إذا استُغني عن محطة من المحطات الثلاث، وتتضاعف إذا استُغني عن محطتين؟ بشكل آخر، أيهما أهم: السير بالتوزيع الطائفي – السياسي – المالي للمحطات (البداوي وسلعاتا والزهراني)، مع ما يُلحقه ذلك من خسائر بالاقتصاد، أم تعديل مسار المناقصة بما يُناسب المصلحة العامة؟
منذ اليوم الأول لإطلاق المناقصة، لا تزال الآراء التقنية متفقة على وجود فضيحة اسمها محطة سلعاتا. أعضاء اللجنة الوزارية المكلفة مناقصة الغاز يؤكدون الأمر عينه. وهم منقسمون بين معارضتها بشدة وبين تحميل المسؤولية لـ «التوازنات» التي فرضتها كأمر واقع. وزيرة الطاقة ندى البستاني، عندما تُسأل، لا تُدافع عن خيار المحطات الثلاث. تكتفي بالإشارة إلى أن مجلس الوزراء أقرّ دفتر الشروط، وهي لم تكن عضواً فيه، مذكّرة بأن الوزارة سبق أن أجرت مناقصة لاستقدام محطة واحدة ألغاها مجلس الوزراء. وتستغرب الحديث عن خلافات حول عدد المحطات، فيما لا يوجد أي معارضة له، لا في مجلس الوزراء، ولا في اللجنة الوزارية.
في أول جلستين للجنة، عرض الاستشاري نتائج المناقصة وترتيب الشركات المشاركة فيها، وأجاب عن بعض الأسئلة، فيما طُرح بعض الملاحظات سريعاً، على أن يُستكمل النقاش في الجلسة المقبلة (اليوم). إلى ذلك الحين، بدأ عدد من أعضاء اللجنة يُعدّ العدة للنقاش في الخيارات البديلة. لكن أحد الوزراء يرى أن نتيجة ذلك لن تكون سوى عودة الأمور إلى الصفر. إذ إن أي تخريب للاتفاق السياسي الذي تمّ عام 2017، وأفضى إلى توزيع المحطات «بالعدل» بين مناطق النفوذ السياسية والطائفية، بصرف النظر عن دراسات الجدوى، لن تكون نتيجته أقل من تطيير المناقصة. رئيس الحكومة يدرك ذلك جيداً. ومع ذلك، مرر في اللجنة رسالة مفادها أن الكل مقتنع بأن لبنان بحاجة إلى محطة واحدة و«لكن أنتم (أعضاء اللجنة الوزارية) تصرّون على ثلاث». وإمعاناً في السخرية، سأل الحريري الوزير وائل أبو فاعور: «وأنتم، ألا تريدون محطة في الجية؟». المزاح هنا لا يقلّل من حجم الفضيحة، ولا من مسؤولية الحريري نفسه عن الفضيحة. مئات الملايين ترمى كرمى للقسمة السياسة وللأوهام التقسيمية الطائفية.
هذا يعني ببساطة أن من يدّعي الحرص على حماية البلد من الانهيار ليس مستعداً للتخلي عن مكتسباته، حتى لو كانت النتيجة توفير أكثر من مليار دولار في عشر سنوات. تجربة إلغاء المناقصة الأولى لا تزال حاضرة. لو لم يجرِ تطييرها لكان الوفر في المحروقات المخصصة لإنتاج الطاقة قد تجاوز كلفة إنشاء معمل ضخم لإنتاج الطاقة! لكن الأولوية كانت في مكان آخر. لذلك، ألغيت المناقصة عام 2016، بدفع من حركة أمل والتيار الوطني الحر، ولم تعد إلى الحياة إلا بعد إضافة محطتين في كل من الزهراني وسلعاتا. حينها لم يكن لبنان على حافة الانهيار، يقول مصدر في اللجنة، ولذلك، يأمل أن تكون النظرة إلى الأمر قد تغيرت، فالانهيار إذا حصل قادر على محو أي مكتسبات مهما كانت كبيرة.
بالنتيجة، ثمة نقاش دائر على هامش اللجنة، بين مدى عقلانية السير بخيار مكلف وغير مجد، وبين كيفية العودة عن نتيجة المناقصة بعدما فتحت العروض وعُرف مضمونها. خلاصة النقاشات تشير إلى احتمالات متناقضة:
– توقيع العقد مع الشركة التي تقدمت بالعرض الأفضل لبناء المحطات الثلاث، أي «قطر للبترول»، بعد التفاوض على تفاصيل العقد، مع توقعات بخفض الكلفة، علماً أنه بعد تردد كلام على عدم قدرة الحريري على تحمّل تبعات توقيع عقد تصل قيمته إلى 13.5 مليار دولار مع الخصم الأول للسعودية، تبين من مصادر مستقبلية أن لا «فيتو» على أي شركة.
– العودة إلى خيار المحطة الواحدة في البداوي، مع تمديد أنبوب في البحر يمد كل المعامل الساحلية بالغاز، انطلاقاً من أن هذا هو الخيار الأفضل، أولاً لأن تمديدها بهذه الطريقة أقل تعقيداً وأسرع من البر، إذ يمكن إنجازه خلال سنة، وثانياً لأن تمديد الأنبوب من الشمال إلى الجنوب، حل استراتيجي مرتبط بمرحلة بدء إنتاج الغاز من البحر. ويبدو لافتاً أن أصحاب فكرة المحطة الواحدة لا يتعاملون معها كأنها انقلاب على نتيجة المناقصة، منطلقين من إمكان دعوة كل الشركات التي قُبلت عروضها إلى تعديلها، بما يتناسب مع المطلب الجديد.
– الإبقاء على خيار المحطات الثلاث، لكن من دون تسليم الأمن الطاقوي لشركة واحدة. ما يعني التفاوض مع «قطر للبترول» لبناء محطة واحدة أو اثنتين (وهو ما كانت ترفضه سابقاً)، مقابل حصول تحالف آخر على عقد بناء المحطة الأخرى. علماً أنه في حال عدم الاتفاق مع الشركة القطرية، فإن الصفقة ستؤول إلى التحالفين اللذين تقودهما شركتا «بي دبليو» (ماليزية) و«اكسيليريت» (أميركية).
«كانتونات الغاز» لا تكتمل من دون محطة سلعاتا!
بين هذه الخيارات، لم يعد سراً أن شركة توتال التي التقى رئيسها وزيرة الطاقة في أبو ظبي، ثم الرئيس الحريري في باريس، تسعى جاهدة إلى حجز مكان لها في الصفقة، انطلاقاً من أن ذلك يُفترض أن يكون أمراً بديهياً لشركة ستبدأ في استكشاف النفط في البحر اللبناني قريباً. وتتجاهل الشركة أنها حلت ثانية بين العارضين المتقدمين إلى المحطات الثلاث، فيما لم يقبل عرضها لبناء «البداوي» وحدها، لأنه لم يتضمن أنبوباً إلى الذوق. وهي تسعى بذلك إلى تسويق معلومات مفادها أن تمديد هذا الأنبوب غير ممكن عملياً، أولاً لوجود اعتداءات على خط سكة الحديد الذي تقترح الدولة استخدامه للتمديد، وثانياً لأنه لا إمكانية لمدّ الأنبوب بحسب الأصول التقنية التي تفرض ترك مساحة خالية تماماً تقدَّر بما بين 15 و20 متراً من جهتي الأنبوب. علماً أن مصادر اللجنة الوزارية أكدت أن لا مشكلة في هذا الإطار. وقد قدمت منشآت النفط تقريراً يؤكد إمكان تأمين الشروط التقنية للتمديد.
ليست «توتال» وحدها مَن يتحرك. الاهتمام القطري بالصفقة عبّر عنه وزير الطاقة القطري، أثناء زيارته للبنان ولقائه كلاً من الحريري وبستاني والوزير جبران باسيل. والاهتمام على ما تبين خلال تلك الاجتماعات لا يقتصر على بناء محطات الغاز، بل يتعداه إلى قرار استراتيجي بالدخول إلى قطاع الطاقة في لبنان، إن كان عبر المشاركة في دورة التراخيص الثانية للتنقيب عن النفط أو في بناء معامل الكهرباء.
- الاخبار – إيلي الفرزلي