من وحي مقولة مهند النابلسي عن بلاد العرب أوطاني – إبراهيم يوسف – لبنان
جرت وقائع هذه الحكاية أو الدّعوى في “دُوْمَا”. بلدة من قضاء البترون في محافظة لبنان الشمالي. تلك البلدة المميَّزة الساحرة تختصرُ اليوم والأمس، بطبيعتها وبيوتها التراثيَّة القديمة، وقرميدها الأحمر الجميل. تشرفُ على وادي “كَفَرْ حَلْوا” الخصيب، وتعيدُ للنفس هناءة العيش في ربوع الماضي، وذكرياته على مسافة من الزمان الحديث.
استخلصتُ الحكاية لطرافتها وقد سمعتُها منذ بعض العقود، على لسان رجل عجوز يجهل القراءة والكتابة، ويمتُّ بصلة القربى لقاضي الادّعاء العام ذلك الحين. رواها خلال سهرة في الريف، وَجَذَبَ ببراعته أسماع الحاضرين.
واكتشفتُ لاحقاً أنّ الحكاية على لسان الرجل، من مذكرات فخري البارودي من المناضلين السوريين في مقاومة الانتداب الفرنسي، وهو مؤلف نشيد بلادُ العُرْبِ أوطاني، النشيد العربي غير الرسميّ في خمسينات القرن الماضي.
ويدعو البارودي في النشيد إلى وحدةِ “طَشاري” العربِ المُبعثرين في الممارسة والقناعات، أقله أن تكون عداوة إسرائيل القاسم المشترك مما يتفق عليه العرب. عسى أن يستجيبَ الله لدعائه، ودعاء أبناء الأمة المخلصين العاقلين.
وتقول الحكاية إنه على أطراف الماضي، وفي ثلاثينات القرن المنصرم، عُيِّنَ زاهِد الأَلشيّ قاضياً في بلدة دُوْما. وكان مِنَ القضاة المشهورين بحس الفكاهة وخفةِ الروح، واليد النظيفة التي لم تلوثها رشاوى الأمس وقضاء هذا الحين.
جاءهُ يوماً مواطن من البلدة إيَّاها يُدْعى محمد أبو غنيم، بشكوى أو “عرضحال” بتسمية ذلك الزمن. ويقول الرجل في دعواه للقاضي: إنَّ اللهَ سبحانه خلقهُ على غير إرادةٍ أو رغبةٍ منه، ودفع به قسراً إلى لجَّة هذا العالم المضطرب البغيض. عالم قاسٍ لا يهدأ فلا يستريح ولا يستكين. ولا يعرف أسباب العدالة والإنصاف بسبب البشر المستبدين.
جرى ذلك كما تقول الدعوى، بلا حول ولا قوة من صاحب الشكوى، حينما قضى الله في أمر ولادتِه، بعد حبٍّ مكتوب وليلة من ليالي الرغبة والحنين، ألْقَتْ أمّه في أحضان أبيه لتحبل وتلد بمشيئة الله وقدرته. هكذا عاش المُدّعِي وكبر وتزوَّجَ مكررا خطأ أبيه، ولم يكن ما حصل إلاّ استجابة لبقاء النوع وسنّة الله في خلقه. ثم مَنَّ عليه ربُّه بفيض من البنات والبنين، يزيدُ عددهم عن قطيع من الماعز يلتهم الأخضر واليابس، ويحتاجُ إلى فيض من المرعى والقوت.
ومن سوء طالعه هذا ما انْفَكَّ الرجل يعانى من ضيق ذات اليد، ويعلن على الملأ عن عجزه وخيبته أمام عياله لتأمين الكسوة والطعام، فاضطربت أحواله ولازَمَتِ الفاقة داره، وسمعة مستباحة تلوكه بلا رحمة، ولا تتوقف عن الاستهانة به، وتجريح يناله ممن ينبغي أن يحبوه ويحترموه. هكذا تحوّل الرجل إلى مُحْبَطٍ وفاشل في عيون محيطه وذويه.
بناءً على ما تقدم من الحيثيات والأسباب؟ فقد طلب الرجل في دعواه من عدالة القاضي الألشيّ، أن يجلبَ المدَّعَى عليهِ ليقاضيه ويسأَلهُ لماذا جنى عليه وخَلَقهُ!؟ وما دام قد خلقه فلماذا نَسِيَهُ وأهمله وتخلى عنه وضيَّقَ عليه رزقهُ!؟ ولم يكتفِ بذلك بل أوحى لأَصحابَ الحوانيت مِنَ التجّار، أَن لا يستجيبوا لحاجته ويُسَلِّفوهُ شيئاً من المال أو الطعام.
تعجَّبَ القاضي وهو يتأمل الدعوى الرسمية المُقَدَّمة من الرجل. الدعوى الغريبة التي دهمته وحطّت بين يديه؛ فحملها القاضي وذهبَ بها إلى *قائمقام المحافظة فأطلعه عليها وقالَ لهُ: سأَنظرُ في القضيَّة مساءً بعدَ إنجاز الدعاوى بينَ يديَّ، وأرجو أَن تشرفني بحضور هذه الجلسة الخاصة، لنرى ما يكون من أمر هذا الذي يطلب محاكمة الله عزّ وجلّ.
وهكذا عقدَ القاضي جلسةً خاصة في الموعد المحدّد مساءَ ذلك اليوم. واقتصر الحضور فيها على قليل من كبار الموظفين وبعض أصدقاء القاضي والقائمقام. ثمَّ طلبَ القاضي إلى المدَّعِي أن يمثل تحت قوس المحكمة، وهو يتكلَّفُ الرصانة والجديّة والهدوء للنظر في دعواه، وحينما حضر المدَّعِي إلى منصة المحكمة؟ سأَله القاضي عن مكان إقامته واسم أمه وأبيه ثم سأله عن الدعوى؟ فطلب المدَّعِي إلى القاضي أن يُحضرَ المدَّعَى عليه أولاً! فأجابه القاضي أنَّ المدَّعَى عليه حاضرٌ دائماً وأبداً في كلِّ مكان وزمان. وهكذا قال الرجل للقاضي إنَّ قضيته مشروحةٌ في الشكوى بين يديه. فأمَرَهُ القاضي أن يرويها مرة أخرى أمام المحلّفين، ليسمعوا المضمون ويبنوا على الشيء مقتضاه.
أعادَ الرجل رواية شكواه، مُسْهباً في شرح وتنميق حالة البؤس، التي تحيط به وبأُسرته، وأفواه الماعز التي تقضي على الأخضر واليابس، فلا تشبع ولا تصبر. قال له القاضي: حسناً.. هل تخبرني منذُ متى هذه العداوةُ بينكما؟ قال الرجل: منذُ زمن طويل يا سيدي، حينما ابتدأ الأولاد يتكاثرون في داري، ويأكلون شعر لحيتي وشاربي! فسأله القاضي مرة أخرى: منذُ تلكَ المدَّة إلى اليوم كم قاضٍ أتى إلى دُوما؟ وردَّ المدَّعِي بقوله: كثيرون يا سيدي. فعاد وسأله من جديد: لماذا لم تتقدَّم بالشكوى طيلة هذه المدة إلى من سبقني من القضاة، لينظروا في دعواك وينصفوك؟
قال المدَّعِي: إنَّ الذين تعاقبوا على القضاء قبلك، لم يكونوا مثلكَ أصحاب جرأة نادرة وقرار عادل وحكيم. بل كان جميعهم قضاة ضعافاً يخشونه ويخافون غضبه! ولهذا فقد اخترتك دون سواك لأتقدم بدعواي أمامك.. فأنت الوحيد الذي لا يخافه، ولا يخشى اللوم والعدالة في القضاء. لهذه الأسباب أتيتكَ بشكواي طالباً منكَ أن تنصفني وتقاضيه!
صُعقَ القاضي وارتبك لشدة وقع الكلام عليه، حينما بدأ الحاضرون بالتصفيق المتواصل للمدَّعِي على بلاغة الرد. وعندما عادَ الهدوء إلى قاعة المحكمة قالَ القاضي: ألا تعتقد معي بأن الصلح كان ويبقى سيِّد الأحكام؟ فهل تريدُ المصالحة مع خصمك؟ هزَّ الرجل رأسه باستجابة وانكسار.. حينما قال له القاضي: إذاً تعالَ إلى داري هذا المساء.
وفي المساء ذهب أبو العيال، محمد أبو غنيم الرجل المدَّعِي على الله إلى دارِ الألشي، فمنحه القاضي بوجود المحلفين الزوّار، ما تيسر له من المال والثياب، ثم أعطاه طحيناً وسكّراً ومؤونة وافرة من زيتٍ ودبسٍ وزيتون وإدام، وحطباً للتدفئة يكفيه طيلة العام، ودابة نشيطة يحتفظ بها لنفسه ينقل عليها عطاياه. ثمّ قال له: اكتب لي براءةً بينكما؟
فَكتبَ الرجلُ البراءةً وناولها للقاضي، فوضعها في جيبه وقال للشهود الحاضرين، بعدَ أن أشهَدَهم جميعا بالتوقيع عليها: حينما أموت أُوصيكم بدفنها في القبر معي، فإذا ما أراد الله في الآخرة أن يحاسبني على سيئآتي؟ سأُنشر بين يديه وثيقتي التي تشهد بأني دفعتُ الدَّين الذي يستحق في ذمَّته، فيسامحني ويعفو عني من عذاب القبر يوم الحساب!
* القائمقام: (قائم مقام) إبّان الدولة العثمانيّةَ هو أرفع منصب في المحافظة والقضاء، ومن مسؤولياته الإشراف على جباية ضرائب الدولة من الأموال الأميرية، ومعظمها من مواسم الفلاحين — بيروت رأس السنة / 2019 – 2020 كل عام وأنتم بخير.