نبيل يوسف
أكتب شهادة من بلاد البترون بالامام المغيّب السيّد موسى الصدر، وكان زارها للمرة الأولى قبل قرابة نصف قرن وترك لدى أهلها أطيب أثر.
منذ فترة أخبرني أحد وجهاء بلاد البترون عن لقاءٍ جرى مع الأمام موسى الصدر في المنطقة: هذا اللقاء غير معروف لدى شريحة واسعة من المواطنين.
لاحقًا استفسرت عن تفاصيله لدى قلة قليلة من الذين شاركوا فيه وما زالوا على قيد الحياة، فأخبروني القصّة التالية:
بداية سبعينيات القرن المنصرم تلقى العديد من كهنة ومخاتير ورؤساء بلديات ووجهاء بلاد البترون دعوة من الشيخ محمد حماده للمشاركة في حفل غداء يقيمه في قريته داعل الواقعة في وسط بلاد البترون، على شرف شخص كان البعض يسمع باسمه للمرة الأولى.
الإمام السيّد موسى الصدر سيزور القرى الشيعية في بلاد البترون (داعل ودير بلا ورشكيدا) ويرغب بلقاء وجهاء المنطقة.
أعلم بعض المدعويين مرجعياتهم السياسية فشجّعوهم على المشاركة، وفي الموعد المحدّد أبكر معظمهم بالتوجّه إلى داعل للمشاركة في استقبال الضيف، حسب ما تقتضي الأصول.
ما زال أحد المشاركين في الاستقبال يتذكّر معظم التفاصيل، فأخبرني أن 3 أمور استوقفته لدى وصول الإمام الصدر إلى داعل وهي:
1- لدى وصوله وقبل أن يسلّم على مستقبليه دخل حسينية البلدة مع أبناء داعل والقرى الشيعية لدقائق معدودة، حتمًا لأداء فريضة صلاة. خرج بعدها ليسلّم على الجميع مكثرًا من عبارات الاعتذار لأنه جعلهم ينتظرون.
2- تواضعه: وصل على متن سيارة مرسيدس عادية جدًا يركبها أي مواطن، وكان يجلس إلى جانب السائق، وما أن شاهد مستقبليه حتى رفع يده محييًا، ولحظة توقّف السيارة تقدّم الشيخ حماده وآخرون يحاولون أن يفتحوا له الباب، لكنه كان أسرع منهم ففتحه بنفسه ونزل من السيارة.
3- تعلّق أبناء الطائفة الشيعية بشخصه: لقد اندفعوا جميعهم باتجاهه يحاولون أن يلمسوه ويحييوه، ونسوتهم تزغرد له، وأكثريتهم الساحقة لم يكونوا عرفوه من قبل، فيما كان يردّ التحية بهدوء ويوزّع الابتسامات على الجميع.
بعد السلام جلس الجميع من حوله، وراح يشكر الضيوف الذين تكبّدوا مشقة المجيء إلى داعل رغم انشغالاتهم، وكان معظم كلامه يدور حول التعايش الاسلامي-المسيحي ووجوب المحافظة على هذا الوطن الذي هو نعمة، ورفع الحرمان والفقر عن الناس: لقد سحر الجميع بنظراته وابتساماته وكلامه الهادئ الرصين.
إضافة الى الميزات التي ذكرتها أضاف مشارك آخر في اللقاء ميزة أخرى: روح الإمام المرحة، فخلال اللقاء قال أحدهم للإمام أن شتلة التبغ هي الجامع ما بين الجنوب وبلاد البترون ويومها كان موسم التبغ رئيسيًا في بلاد البترون.
ردّ الإمام الصدر باسمًا وكأنه يعرف الجواب: وبينكم وبين بعلبك؟
أجابه بتروني وسط ضحك الجميع: بصراحة زراعة الحشيشة بالجرود ومنقوص بعضنا على المراعي، بس البعلبكيي أشطر منا بيزرعوا أكتر منا وبيشتروا منتوجنا.
من ثم انتقل الضيوف لتناول الغداء، ولفت نظر المشاركين أن الطاولات وضعت منفصلة عن بعضها، ولاحقًا علموا أنه خلال التحضير للغداء أبلغ الشيخ حماده الإمام أن أبناء بلاد البترون، لا يمكن إلّا أن يشربوا العرق خلال تناولهم الطعام خاصة نهار الأحد، فما كان من الإمام إلّا أن طلب توزيع الطاولات بشكل منفصل واقتصار عدم وضع الكحول على الطاولة التي يجلس عليها. ومما قاله: المهمّ راحة المدعوين.
لدى مغادرة المدعوين وقف الإمام الصدر والشيخ حماده يودّعونهم ولدى السلام على رئيس بلدية دوما سمعوا الشيخ حماده يقول للإمام: داعل هي بحجم حي من أحياء دوما، فربت الإمام على كتف رئيس البلدية قائلاً: إنتوا وأولاد داعل أهل ديروا بالكم على بعض.
اِنتهى اللقاء، وغادر الإمام الصدر بلاد البترون تاركًا رصيدًا رائعًا لدى المشاركين في مأدبة الغداء، الذين بقوا جميعهم يتحدثون عنه لوقت غير قصير.
أخبرني مشارك في اللقاء أنه التقى بعد فترة صديقًا شيعيًا، كان حاضرًا الاجتماع الذي عقده الإمام الصدر لوجهاء القرى الشيعية البترونية، فأخبره أن الإمام حثّهم على وجوب إبقاء علاقاتهم مفتوحة وطيّبة مع جميع قيادات بلاد البترون، ومما قاله لأبناء طائفته أنهم في هذه الأرض منذ أعوامٍ طويلة وقدرهم أن يبقوا فيها، فمن المهمّ أن يتفاعلوا مع أبناء منطقتهم، لأن قدرهم العيش معًا، وإذا واجهتهم أي مشاكل فعليهم بداية الاتصال بقيادات المنطقة لمعالجتها، قبل الاتصال به.
هذه كانت وصية الإمام موسى الصدر: الانفتاح والتعايش معًا.
كم نحن اليوم بحاجة للإمام موسى الصدر وأمثاله، دعاؤنا أن يُفكَّ أسره فيعود إلى أهله ووطنه: إما حيًا يرزق فيشارك في قيادة مسيرة هذا الوطن، أو شهيدًا يستريح في تراب لبنان، وأن يُفكَّ أسر جميع الأسرى والمعتقلين والمفقودين اللبنانيين في السجون الخارجية، ولن نكلّ عن المطالبة بهم لإعادتهم إلى وطنهم ولو حفنة تراب.
نبيل يوسف
السبت 31 آب 2019