احتفل راعي أبرشية البترون المارونية المطران منير خيرالله بقداس خميس الأسرار مع كهنة الأبرشية في المطرانية، دير مار يوحنا مارون في كفرحي. وبعد تلاوة الإنجيل المقدس ألقى عظة قال فيها:
“نلتقي اليوم كعادتنا كل سنة لنجدد التزامنا بقبول نعمة الكهنوت التي نلناها بالروح القدس من الرب يسوع المسيح في الكنيسة بواسطة الأسقف خليفة الرسل، ونجدد الأخوة الكهنوتية التي تجمعنا بالمسيح.
نلتقي ونحمل في قلوبنا وصلواتنا وعلى مذبح الرب سيادة أبينا المطران بولس آميل سعاده وإخوتنا الغائبين.
إننا نحتفل معا بالافخارستيا لنصنع ذكرى ربنا يسوع المسيح الذي أقام عشاء الفصح الأخير ” قبل انتقاله من هذا العالم إلى أبيه، وكان قد أحب خاصته الذين في العالم، فبلغ به الحب لهم إلى أقصى حدوده ” (يوحنا 13/1)، وأسس سري القربان والكهنوت، وكلاهما علامة سرية للمحبة التي أحبنا بها الله ولخدمة شعب الله والعطاء المجاني.
وفي هذه الذكرى نسمع يسوع يقول لنا: ” شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل آلامي ! فاني أقول لكم: لن آكله بعد اليوم إلى أن يتم في ملكوت الله… إصنعوا هذا لذكري ” (لوقا 22/15-19)”.
وأضاف خير الله:” لكن احتفالنا هذه السنة له طعم مر جراء الأزمات المتراكمة والمآسي التي حلت بنا، وجاء وباء كورونا يزيدها مرارة ويمنعنا من التواصل المباشر والالتقاء، كما أثر سلبا على العالم كله باعتباره ” مأساة عالمية، كما يقول قداسة البابا فرنسيس، ولكنه زاد الإدراك بأننا مجتمع عالمي يركب الزورق نفسه، حيث ضرر فرد واحد يصيب الجميع. وذكرنا بأنه ما من أحد يخلص وحده، وبأنه لا يمكننا أن نخلص إلا مجتمعين”. ” ولهذا السبب قلت إن العاصفة تسقط القناع عن ضعفنا وتفضح الضمانات الزائفة وغير الضرورية التي بنينا عليها جداول أعمالنا ومشاريعنا وعاداتنا وأولوياتنا” (كلنا أخوة، عدد 32).
والذين عاشوا مثلي خبرة الإصابة بالكورونا يشهدون أنها خبرة استثنائية تحملنا فيها الآلام والأوجاع وشاركنا شعبنا في ما يتحمل من أوزار المآسي المعيشية والاقتصادية والصحية والنفسية.
ويشهدون أننا عشنا خبرة روحية جعلتنا نلتقي بالله في علاقة بنوية مباشرة، وخبرة كنسية جعلتنا نكون أكثر قربا من كل شخص من أبناء رعايانا وعائلاتنا ونعاني ما يعانون ونترجى ما يترجون. واكتشفنا أن الصحة هي الأغلى، والصحة هي الحياة، وليس أغلى عند الإنسان من الحياة ! وأن كل شيء في هذه الدنيا زائل وفان، وما يبقى لنا بعد عبورنا هو المحبة وأعمال الرحمة التي نقوم بها مع الأقربين والأبعدين. من هنا واجب أن نكون، في خدمتنا الكهنوتية ورسالتنا المسيحية والإنسانية، سامريين صالحين نمد يد المساعدة إلى المسيح المتجسد في كل محتاج، فقط باسم المحبة”.
وتابع:” ونزيد على كل ذلك أن العالم تقارب إذ أصبح يعيش في قرية كونية بفعل ظاهرة
“العولمة التي جعلتنا نسجل، من ناحية أولى، التقدم الإيجابي الذي حدث في العلوم والتكنولوجيا والطب والصناعة والرفاهية، ونسجل، من ناحية أخرى، تراجع الأخلاق الضابطة للتصرفات الدولية وتراجع القيم الروحية والشعور بالمسؤولية، ما أسهم في نشر شعور عام بالإحباط والعزلة واليأس” (كلنا أخوة، عدد 29). هذا ما يعيشه أخوتنا وأبناؤنا في مجتمعنا اللبناني. من هنا وجب علينا إعادة التفكير في أداء رسالتنا وخدمتنا الكهنوتية، وأنماط حياتنا وعلاقاتنا وتنظيم أجنداتنا وجدولة أولوياتنا. لذا، وانطلاقا من الأولويات الراعوية التي كنت وضعتها في مشروع خدمتي الأسقفية في أبرشية البترون بهدف التجدد، ومن المواضيع التي عملنا عليها لمدة ست سنوات في مجمعنا الأبرشي،
وانطلاقا من الدعوة إلى القداسة الموجهة إلى كل واحد منا في أبرشية البترون أبرشية القديسين، وانطلاقا من سنة مار يوسف التي أعلنها قداسة البابا فرنسيس (من 8/12/2020 إلى 8/12/2021)، وأراد أن يجعل لنا من القديس يوسف مثالا وقدوة وأن يقول لنا أن كل واحد منا، من حيث هو ومن حيث يعيش ويشهد، يستطيع أن يكون قديسا، وانطلاقا من سنة العائلة التي أعلنها قداسة البابا فرنسيس (من 19/3/2021 إلى 26/6/2022) والتي يسلط فيها الضوء على الدور المركزي للعائلة بصفتها كنيسة بيتية، وعلى أهمية العلاقات الجماعية بين العائلات التي تجعل من الكنيسة ” عائلة العائلات ” (فرح الحب، عدد 87)، فنتخذ من العائلة المقدسة مثلا وقدوة لعائلاتنا، انطلاقا من كل ذلك أريد أن أطرح جدولة أولويات تتناسب مع وضعنا الكارثي اليوم والتحديات التي نواجهها في تأدية خدمتنا الكهنوتية ورسالتنا الإنسانية في راعوية تركز على القرب من الناس (proximité) وعلى خروج الكنيسة لملاقاتهم حيث يعانون ويتألمون(Eglise en sortie).
فالأولويات في المرحلة المقبلة تأتي كما يلي:
– أولا، خدمة المحبة: التعاضد والتضامن لمد يد المساعدة لإخوتنا المحتاجين والذين، مثل أكثرية اللبنانيين، أصبحوا يعيشون تحت خط الفقر. عدد العائلات المحتاجة في الأبرشية وبحسب إحصاءات الكهنة كان في كانون الثاني 2021 يقارب 674 عائلة، وأصبح اليوم يفوق 1004 عائلة.
ونعمل في الأبرشية على مساعدة هذه العائلات عبر اللجنة الأبرشية لخدمة المحبة التي تضم مندوبين عن رابطة كاريتاس وجمعية مار منصور وغيرهما من الجمعيات التي تعنى بالشأن الاجتماعي.
وأسسنا في نيسان 2020 الصندوق الاجتماعي الأبرشي لدعم المساعدات التي تؤمنها الأبرشية ولجنة خدمة المحبة. ونشكر كل أصحاب الأيادي البيضاء من أبناء الأبرشية في لبنان وخارج لبنان.
– ثانيا، العائلة: يقول قداسة البابا فرنسيس في رسالته لإعلان سنة العائلة: ” نحن مدعوون لأن نكتشف مجددا القيمة التربوية للنواة العائلية التي تقوم على المحبة التي تجدد العلاقات باستمرار وتفتح آفاق الرجاء. باستطاعتنا أن نختبر في العائلة شركة روحية صادقة عندما تكون بيتا مصليا، وتكون المشاعر صادقة وعميقة ونقية، وعندما يفوق الغفران الخلافات، وعندما يستقر الحنان المتبادل والالتزام الهادئ بإرادة الله حتى يخفف قسوة الحياة اليومية”.
إننا نقدر ما تقوم به لجنة العائلة في الأبرشية من جهود جبارة منذ سنوات للوقوف إلى جانب العائلات، في تنظيم مركز الإعداد للزواج وتجديده وتأوينه، وفي العمل على تنظيم لقاءات للعائلات والمتزوجين، وفي إنشاء مركز للإصغاء والمصالحة، وفي التنسيق مع لجنة المرافقة الروحية والرعوية والعائلية والاجتماعية والنفسية. وهي تحتاج إلى دعمنا ومؤازرتنا لكي تواجه التحديات التي تكبر يوما بعد يوم وتتجلى في الخلافات الزوجية، وفي تشرذم العائلة جراء الصعوبات المادية والنفسية، وفي التعامل مع الحالات الخاصة للأولاد، وغيرها.
– ثالثا، الشبيبة والطلاب الاكليريكون: إنهم مستقبل الوطن ومستقبل الكنيسة ورجاؤهما ويستحقون منا كل اهتمام.
نشكر الله على شبيبتنا في الأبرشية الذين لا يزالون ملتزمين في الأخويات والجمعيات والحركات الكنسية وفي الرعايا ويخدمون كنيستهم ومجتمعهم بمحبة واندفاع مرتكزين على إيمانهم بالله ورجائهم بالحياة الجديدة.
ونذكر إخوتهم وأخواتهم الشباب والصبايا غير الملتزمين والبعيدين عن الكنيسة.
وهؤلاء وأولئك، جميعهم، يعانون من المآسي المتراكمة في لبنان كالبطالة وانسداد الأفق أمام انتظاراتهم فيحلمون بالهجرة إلى بلد يفتشون فيه عن عيش حر كريم.
وجميعهم يتعطشون إلى تنشئة يتعمقون من خلالها بإيمانهم وبانتمائهم الكنسي والوطني، ويطالبوننا بمرشدين يرافقونهم.
من هنا لا بد من إعداد كهنة يتفهمون ويتجاوبون مع حاجات الشباب خصوصا ومتطلبات المؤمنين عموما، ويدعوهم الله من بين هؤلاء الشباب في مجتمع اليوم.
ونفتقد اليوم إلى دعوات كهنوتية ورهبانية. والمدعوون أصبحوا قليلين. عندنا هذه السنة طالب إكليريكي واحد في الاكليريكية البطريركية في غزير. أإلي هذا الحد أصبحت أبرشية البترون فقيرة بالدعوات الكهنوتية ؟ نحن نتحمل المسؤولية معا، وعلى كل كاهن منا أن يهيء الشباب من خلال شهادة حياة كهنوتية بسيطة وفقيرة ومصلية ومندفعة للخدمة، فيدعوهم الله إلى خدمة شعبه.
– رابعا، الكرازة والتعليم والتنشئة: شعبنا وشبابنا يتعطشون إلى كرازة مسيحية تنطلق من كلمة الله في الكتاب المقدس أولا، ومن تعاليم الكنيسة ثانيا، ومن تراث كنيستنا الانطاكية السريانية المارونية ثالثا.
مسؤوليتنا نحن الكهنة أن نعلم شعبنا في عظاتنا التي علينا أن نحضرها جيدا ونعود فيها إلى كلمة الله وتعليم ربنا يسوع المسيح، ونبتعد فيها من السياسة ومسايرة المرجعيات العائلية والحزبية. وكذلك في سهراتنا الانجيلية ولقاءاتنا الروحية. “
وقال:” إننا نحتاج كذلك إلى إعادة إحياء معهد التنشئة في الأبرشية، ولا ينقصنا، والحمدلله، الكهنة القادرون على التعليم فيه في الاختصاصات المتعددة. يكفي أن نتخذ القرار بذلك وتبدأ الدروس في تشرين الأول المقبل”.
وختم المطران خير الله داعيا ” إخوتي الكهنة والرهبان وأخواتي الراهبات والعلمانيين الملتزمين في الحركات والجمعيات والمنظمات الكنسية والمجالس واللجان الأبرشية إلى الالتزام معا في سبيل وضع هذه الأولويات موضع التنفيذ واستنباط مبادرات خلاقة، كل في الحقل الذي يعمل فيه، تتجاوب مع تطلعات وحاجات أبنائنا واخوتنا في الأبرشية. ونكون بذلك نطبق ما قررناه في مجمعنا الأبرشي ” لنتجدد ونتقدس بالمسيح على خطى آبائنا القديسين” (شعار المجمع الأبرشي).”