من أخبار ٥ تموز ١٩٧٥:
قرابة الساعة الرابعة فجرا” تلقى قسم كفرعبيدا الكتائبي اتصالاً من البترون يفيد أن هجوماً كبيراً تتعرض له شكا وحامات وخطوط الجبهة انهارت بالكامل.
على الفور بدأ استدعاء المقاتلين وسط قرع جرس كنيسة مار سركيس وباخوس.
حوالي الساعة الخامسة فجراً كان عشرات المقاتلين قد أصبحوا جاهزين وانطلقوا باتجاه خطوط الجبهة في محاولة يائسة لوقف الزحف الفلسطيني حتى وصول النجدة من بيروت، ولكن المعلومات الواصلة من الجبهة كانت سيئة جداً فكان لا بد من رد سريع يوقف هذا الانهيار المتسارع.
هنا أخذ ادمون صهيون رئيس قسم كفرعبيدا الكتائبي المبادرة واختار أربعة عشر شاباً ممن لا سقط فيهم (أي غير متزوجين ولديهم أشقاء ذكور) ، وقرر أن يتوجه برفقتهم في محاولة لتأخير التقدم الفلسطيني. وقبل انطلاقهم حدثهم قائلاً: “الوضع أخطر مما تتصورون ولا نعرف بعد الى أين وصلت القوات الفلسطينية. سنتقدم حتى نصطدم بهم وستكون معركة قاسية قد نستعمل فيها السلاح الأبيض، ومن المرجح ألا يعود أحد منا حياً، وأن تبقى جثثنا في أرض المعركة فلا خيار أمامنا سوى القتال حتى الموت لأن سقوط حامات ووجه الحجر يعني وصول الفلسطينيين الى جونيه ومجازر ستطال الجميع، فمن لا يريد المشاركة يمكنه البقاء والتوجه الى أي موقع”.
لكن جميع الذين تم اختيارهم رفضوا التراجع وتسابقوا على الصعود الى السيارات
لم يمض وقت حتى انطلقت من أمام قسم كفرعبيدا سيارة دودج ستايشن جلس ادمون صهيون الى جانب السائق وخلفها جيب وعلى متنهما انتحاريو كفرعبيدا الأربعة عشر.
وصل شباب كفرعبيدا الى مركز التجمع العسكري في مبنى بلدية سلعاتا ونزل ادمون صهيون يستفسر عن آخر الأخبار.
لم يكن هناك أي خبر واضح، فكل الأخبار سيئة وآخر خبر وصل أن القوات الفلسطينية سيطرت على محيط دير سيدة النورية وكنيسة مار سمعان الاستراتيجيين، واذا استطاعوا نصب مدفعيتهم قرب الكنيسة تمكنوا من اقفال الطريق عند جسر المدفون.
رد ادمون صهيون: “رح نحاول نسترد الكنيسة”.
صرخ ضابط: “مجنون ؟ بدكم تنتحروا؟”
لم يرد ادمون صهيون وركب سيارته وأشار للسائق بالانطلاق رغم الطلب منه التمهل قليلاً.
وصل شباب كفرعبيدا الى مدخل النفق الجنوبي ونزلوا الى الأرض وحدثهم ادمون صهيون قائلاً: “سنتقدم صعوداً سيراً على الأقدام عبر هذا الشير العالي متمسكين بالأشجار البرية ومستعملين الحبال التي معنا .فالفلسطينيون لن يصدقوا أن أحداً ما سيصل اليهم من هنا وهكذا سيلعب عامل المفاجأة ضدهم وان كانت تباشير الصباح عامل غير مساعد “.
متمسكين بالأشجار ومستعملين الحبال وفي أقل من نصف ساعة حسبها المتسلقون دهراً ، وصلت مجموعة كفرعبيدا بصمت هائل الى قرب الكنيسة. وصدق حدسُ ادمون صهيون ، فالفلسطينيون كانوا يديرون ظهورهم الى حيث وصل شباب كفرعبيدا، فمن كان يتصور في أحلامه أن مقاتلين يمكنهم الصعود عبر هذا الشير؟.
ما ان اكتمل وصول المجموعة الى أعلى الشير وباشارة من ادمون صهيون انقضوا على المجموعة الفلسطينية وأبادوها وسيطروا على محيط كنيسة مار سمعان، وهنا حدثت مفاجأة: فقد تبين ان الفلسطينيين يلبسون، تمويهاً، بدلات الجيش اللبناني ويضع بعضهم شارات أحزاب الجبهة اللبنانية، فقال ادمون: “هذه مصيبة ليست بالبال”. (لاحقا” قررت قيادة القوات اللبنانية الموحدة ان يعصب المقاتلون رؤوسهم بشرائط زرقاء).
يبدو ان الفلسطينيين المتمركزين في دير سيدة النورية سمعوا اطلاق الرصاص عند كنيسة مار سمعان فتقدموا يستطلعون ما يجري، لكن شباب كفرعبيدا كانوا لهم بالمرصاد وبدأ تبادل الرصاص، و كان مع الفلسطينيين دبابة ضايقت شباب كفرعبيدا الذين بدأوا يفكرون بالتراجع، فزحف ادمون صهيون قرب مقاتل معه صاروخ، وهو الصاروخ الوحيد مع المجموعة، وهمس في اذنه قائلاً: “كل أملنا فيك”.
أخبرني ذلك المقاتل أنه أحس أن ضغطاً هائلاً يجتاح رأسه، فقد شعر أن نجاح الهحوم متوقف على هذا الصاروخ. لحظات وتمتم: “دخلك يا نورية”، وضغط على الزناد وراحت النار تلتهم الدبابة بعد أن أصابها الصاروخ اصابة مباشرة فيما الفلسطينيون يفرون باتجاه دير النورية وشباب كفرعبيدا يطاردونهم وهم يصرخون:” يا نورية!”.
الساعة السابعة والنصف صباحاً ، دخل شباب كفرعبيدا دير سيدة النورية واستقبلتهم الراهبات بالزغاريد وهن اللواتي عانينَ من الفلسطينيين طوال ساعات ما لا يتحمله بشر.
مزهواً بهذا الانتصار، حمل ادمون صهيون جهاز اللاسلكي وخاطب غرفة القيادة في سراي البترون قائلاً: “سيطرنا على كنيسة مار سمعان ودير سيدة النورية ونستعد للتقدم الى ساحة حامات، خسائرنا ثلاثة جرحى” (استشهد أحدهم لاحقاً متأثراً باصابته).
في غرفة العمليات كانت كل الأخبار سيئة وما إن سمعوا صوت ادمون صهيون حتى انفرجت الأسارير، إذ كان الرأي جامعاً: شباب كفرعبيدا لن يستطيعوا الصمود طويلاً في دير النورية وطريق امدادهم مقطوع وذخيرتهم ستنفذ قريباً ،بينما طريق امداد الفلسطينيين مفتوحة الى ساحة حامات وراس نحاش، فكان القرار بدعم مجموعة كفرعبيدا بمجموعات مساندة.
وكانت مجموعات من كسروان وجبيل قد وصلت إلى البترون، فاختير بعضهم ممن كانوا خضعوا لدورات كومندوس ومع ادلاء من سلعاتا باشروا تسلق شير مار سمعان وانضموا الى مجموعة كفرعبيدا التي كانت بدأت التقدم نحو ساحة حامات.
تبقى أكثر من ملاحظة:
1- قدمت كفرعبيدا يومها ثلاثة شهداء: ريمون صهيون شقيق ادمون صهيون واستشهد في شكا فجر 5 تموز ، وجوزف سمعان وكان من ضمن المجموعة الانتحارية التي سيطرت على كنيسة مار سمعان ، وشربل شاهين الذي استشهد في 6 تموز في تحرير شكا ، اضافة الى عدة جرحى.
2- ربيع 1977 طلبت قيادة القوات اللبنانية الموحدة من عناصر المجموعة اعادة تمثيل عملية صعود الشير من أجل فيلم عن الحرب اللبنانية، فلم يتمكن معظمهم من اكمال الصعود ، فيما كانوا فجر 5 تموز قد وصلوا الى ساحة كنيسة مار سمعان من دون أن يشعروا بأي تعب.
3- اعتبر ضابط سابق “أن ما قام به شباب كفرعبيدا يعتبر في العلم العسكري مجازفة غير محمودة العواقب تصل الى حد التهور ويضيف: ولكن للتاريخ فهذه العملية تعتبر الأجرأ في تاريخ الحرب اللبنانية ويمكن أن تدرس في الكليات الحربية . بالنسبة لي لحظة وصلني خبر عبور شباب كفرعبيدا باتجاه نفق شكا جزمت انهم لن يعودوا أحياء”.
ويكمل: “عاملان أوقفا الهجوم الفلسطيني الناجح جداً:
الأول: الالتهاء بالسرقات، والثاني والأهم: الاصطدام مع شباب كفرعبيدا ما دفع القيادة الفلسطينية إلى مراجعة خططها فكانت أن وصلت النجدة من المنطقة الشرقية.
يختم الضابط بالقول: بعد أيام وخلال تقديم التعزية بشباب كفرعبيدا شددت على يد ادمون صهيون قائلاً له: “تستحق أرفع وسام على ما قمت به عند جبل الشقعة وان كان من المفروض لو كنت عسكرياً ان تتم مساءلتك على تهورك وتعريض رجالك للخطر وعدم مراجعة القيادة العسكرية المكلفة درس خطط الهجوم المضاد”.
- نبيل يوسف من كتاب: بلاد البترون من الشرارة الى الانتفاص ١٥٥-١٥٨