قام يوحنا مارون وبعد تسلّمه أسقفية البترون، بتنظيم أعمال المقاومة وأسّس مجموعة قيادية مرتبطة به مستثمراً مواهبه القيادية والملهمة
كان البطريرك الماروني الأوّل يوحنا مارون (تعيّد له الكنيسة في الثاني من آذار) مقاوماً وقائداً روحياً وزمنياً من الطراز الرفيع… في كتاب “هوية من تاريخ”، يذكر، أن يوحنا مارون “كان يؤمن أن الله لا يفعل أي شيء بالصدفة، بل كل ما يفعله هو من ضمن مخططه الإلهي، وكان يؤمن أيضاً أن ذكر لبنان في الكتاب المقدّس لم يكن مجرّد صدفة، وبناء اللبنانيين لهيكل أورشليم من حجارة وأرز لبنان لم يكن صدفة، وأن زيارات المسيح والرسل إلى لبنان لم تكن صدفة، وأن تجلّي المسيح على جبال لبنان لم يكن صدفة، فمع الله لا مكان للصدف. وإذا ما أدركنا أيضا مدى الثقة العظيمة التي كان يضعها هذا الراهب في الله على خطى مؤسس رهبنة مار مارون، وإذا ما استذكرنا صفات العناد والإصرار والصلابة التي تميّز بها رهبان مار مارون على خطى معلّمهم، لتمكنّا من تصوّر الخلفية التي جعلت يوحنا مارون يتخذ قراره بالتوجّه إلى قلب النار، إلى جبل لبنان.
عند وصول يوحنا مارون إلى لبنان، وجد أبناءه كقطيع بلا راعٍ، يقاومون ويستبسلون في مقاومة الغزاة ولكن بطريقة فوضوية، حيث أنه لم يكن لديهم قيادة مركزية وكان يسقط لهم العديد من الشهداء، غير أن العرب لم يكونوا قد تمكّنوا بعد من اختراق المواقع الجبلية الحصينة للّبنانيين المسيحيين. فقام يوحنا مارون وبعد تسلّمه أسقفية البترون، بتنظيم أعمال المقاومة وأسّس مجموعة قيادية مرتبطة به مستثمراً مواهبه القيادية والملهمة، واستطاع في وقت قصير إكتساب محبّة واحترام وولاء جميع السكان المحليين. كما قام بتعيين قادة محليين للمناطق، وأعطى كلّ قائد منطقة لقب “مقدّم”، وهذا اللقب يعني أنّه المتقدّم في الخدمة، وعلى كلّ “مقدّم” أن يتحلّى بشروط وصفات حدّدها هو شخصيا (أي يوحنا مارون)، فالمقدّم يجب أن تكون له رتبة في جسم الكنيسة حتى يكون خاضعاً لها مباشرة، فأعطى كلّ مقدّم رتبة شدياق. كما وجب عليه “أن يتمتع بكل صفات الفرسان، أي الشجاعة، الإقدام، النبل، الشهامة، الشرف، العفّة، الدفاع عن الضعيف والمظلوم، وأن يكون محترماً ومحبوباً من أبناء منطقته، ذا سيرة حسنة، قديساً، مترفعاً وملتزماً بكنيسته وبالإيمان الخلقدوني. بإختصار وجب على المقدّم أن يجمع صفات الشجاعة والقداسة، فبذلك يكون يوحنا مارون قد فرض نظام أقرب إلى نظام الرهبان على المقدّمين ورجالهم، فأصبح بموجب هذا التنظيم لكلّ منطقة وجوارها مقدّم ومجموعة قتالية مرتبطة به، فمثلاً كان هناك مقدّم لحفد ومقدّم العاقورة ومقدّم بشرّي ومقدّم تنّورين ومقدّم بسكنتا ومقدّم ترشيش وغيرها… وكان عدد المقدّمين في معظم الأوقات ثلاثين مقدّماً يرتبطون مباشرة بيوحنّا مارون، وقد جرت العادة أن ينتخب هؤلاء المقدمون من بينهم أميراً هو متقدّم بين متساوين، فيكون متقدّماً في الخدمة ويمنح لقب أمير جبل لبنان بعد أن يثبّته البطريرك، ومن هؤلاء الأمراء: “الأمير يوحنا الأوّل، الأمير سمعان والأمير ابراهيم وغيرهم، أمّا السلطة العليا الروحية والزمنية فكانت دائماً للبطريرك.
مع هذا التنظيم وبفضل تلك الاجراءات القيادية تفعّلت المقاومة في جبل لبنان، فالثقة الكبيرة التي كانت ليوحنّا مارون بالله وبأنّه لا بدّ وأن ينصره، قد انتقلت كالعدوى إلى كلّ المقاومين والسكّان المحليين وكان لها الأثر العظيم في نفوسهم، فارتفعت المعنويات واشتدّت الهمم، وتحوّل جبل لبنان إلى جدار فولاذي استعصى على الأمويين خرقه بعد أن كانوا يتقدّمون بسهولة على الجبهات الأخرى في المنطقة كافة. كان يوحنا مارون يطلب من المقاومين عند كل معركة أن ينشدوا المزمور رقم 27 للملك داود: “الربّ نوري وخلاصي فممن أخاف، الربّ حصن حياتي فممن أرتعب، إن نزل عليّ جيش لا يهاب قلبي، وإن قامت عليّ حرب ففي ذلك أنا مطمئنّ…” فأصبح هذا المزمور بمثابة النشيد الوطني لجبل لبنان في تلك الحقبة. أما علم جبل لبنان في تلك المرحلة فكان أحمراً بالكامل وفي وسطه الصليب الخلقيدوني الأبيض الذي يرمز إلى الطبيعتين البشرية والإلهية للمسيح، وتحت هذا الصليب سيف مجرّد من غمده ويرمز إلى التأهب والاستعداد الدائم”.
من كتاب “هوية من تاريخ”
*كان الموارنة يختارون مقدمّيهم حسب الشروط التي حدّدها البطريرك الأول يوحنا مارون، ولم يكن الإرث والإقطاع السياسي معروفا عندهم، واستمرّ نظام المقدّمين بالاختيار منذ يوحنا مارون (حوالي العام 676م) حتى العام 1382م مع العصر المملوكي حيث باتت المقدّمية تنتقل بالوراثة.