القدّيس مارون والطائفة الموارنة – نبيل يوسف

تعتبر الطائفة المارونية، الطائفة المسيحية الوحيدة في العالم التي تحمل اسم شفيعها. وتعود بجذورها إلى القدّيس مارون الراهب الذي تنسّك على جبل سمعان الواقع قرب مدينة حلب في شمال سوريا، وبحسب الدكتور فيليب حتّي فمارون لفظة سريانية، وهي تصغير لكلمة “مارو” التي تعني السيّد والمولى والتصغير هنا يأتي للتحبّب.

عاش القدّيس مارون في القرن الرابع 350-410، ونقل أخباره تيودوريطوس أسقف قورش، الذي كان معاصرًا ومجاورًا له، في كتابه “تاريخ الرهبان والنسّاك”. وأسماه في الكتاب “مارون الإلهي”.

يقول تيودوريطس: لقد زّين مارون، طغمة القدّيسين المتوحّشين بالله، ومارس ضروب التقشّفات والأماتات تحت جو السماء، من دون سقفٍ سوى خيمة صغيرة لم يكن يستظلّها إلّا نادرًا. وكان هناك حيث تنسّك هيكل وثني قديم، فكرّسه وخصّصه لعبادة الإله الواحد، يحيي الليالي بذكر الله وإطالة الركوع والسجود والتأمّلات في الكمالات الإلهية، ثم ينصرف إلى الوعظ وإرشاد الزائرين وتعزية المصابين. ولأن المجاهد يوازن بين النعمة والأعمال فيكون جزاء المحارب على قياس عمله، وبما أن الله غني كثير الإحسان إلى قدّيسيه منحه موهبة الشفاء فذاع صيته في الأفاق كلّها فتقاطر إليه الناس من كلّ جانب، وكانوا جميعهم علموا أن ما اشتهر عنه من الفضائل والعجائب هو صحيح. وبالحقيقة كانت الحمّى خمدت من ندى بركته والأبالسة أخذوا في الهرب، والمرضى كلّهم برئوا بدواء واحد هو صلاة القدّيس، لأن الأطبّاء جعلوا لكلّ داءٍ دواء، غير أن صلاة الأولياء هي دواء شاف من جميع الأمراض, ولم يقتصر القدّيس مارون على شفاء أمراض الجسد بل كان يبرئ أيضًا أمراض النفس.

ويخبرنا تاريخ القدّيس يوحنّا فم الذهب أنه كتب من منفاه في جبال أرمينيا رسالة إلى القدّيس مارون عابقة بما بين القدّيسين من محبّة روحية واحترام وأخوة في المسيح جاء فيها: إلى مارون الكاهن الناسك، إن رباطات المودّة والصداقة التي تشدّنا إليك، تمثّلك نصب عينينا كأنك حاضر لدينا، لأن عيون المحبّة تخرق من طبعها الأبعاد ولا يضعفها طول الزمان. وكنا نود أن نكاتبك بكثرة لولا بعد الشقّة وندرة المسافرين إلى نواحيكم. والآن فإنا نهدي إليك أطيب التحيّات ونحب أن تكون على يقين من أننا لا نفتر عن ذكرك أينما كنا. لما لك في ضميرنا من المنزلة الرفيعة. فلا تضنّ أنت أيضًا علينا بأنباء سلامتك، فان أخبار صحّتك تولينا على البعد أجل سرور وتعزية في غربتنا وعزلتنا فتطيب نفسنا كثيرًا، إذ نعلم أنك في عافية. وجلّ ما نسألك أن تصلّي إلى الله من أجلنا.

ما أن انتشرت سمعة الكاهن مارون الناسك حتى تكاثر عدد الرهبان حوله. فأقامهم أولًا في مناسك وصوامع على الطريقة الانفرادية بحسب عادة تلك الأيام، ثم أنشأ لهم أديارًا وسنّ لها القوانين. وتعدّدت تلك الأديار في شمالي سوريا، حتى أن تيودوريطس يغتبط بوجودها في أبرشيته.

لم يذكر تيودوريطس سنة وفاة القدّيس مارون، ولم يعثر في كتب القدماء على ما يعين في ذلك، والذي رواه العلامة البطريرك بولس مسعد في كتابه الدرّ المنظوم أنه لقي ربه سنة 410.

وجاء في المعجم التاريخي الجغرافي لبويليا في طبعته الحادية والثلاثين التي صحّحها وهذّبها عمدة من العلماء بحسب ما أورده المطران يوسف الدبس، رئيس أساقفة بيروت الماروني، في كتابه الجامع المفصّل في تاريخ الموارنة المؤصّل، أن القدّيس مارون ناسك ورع كان في سوريا في القرن الخامس رقّي إلى درجة الكهنوت سنة 405 وتوفي سنة 433 وتنسّك على جبلٍ قريب من قورش واستدعى إليه جمعًا كبيرًا من التلامذة فأنشأوا أديارًا عديدة ويعيّد لذكره في 9 و14 شباط.

بعد وفاة القدّيس مارون عاشت أول جماعات مارونية في شمال سوريا قرب أفاميا حول دير القدّيس مارون على العاصي، ولاحقًا انتشروا في عدّة أماكن من شمال سوريا، خاصة معرّة النعمان وحماه وحمص وبعض المؤرّخين يؤكّدون وجودهم في عدّة أماكن سورية شمالية أخرى كمنبج وقنسرين وناحية العواصم، ومن المحتمل وجودهم في مدينة أنطاكية وجوارها لأنها كانت تعد عاصمة تلك النواحي وفيها تدخل مدينة قوروش المتكرر ذكرها في ترجمة القدّيس مارون.

والبعض يؤكّد أن قسمًا من رهبان مار مارون ساروا باتجاه منابع نهر العاصي المحاذي لصوامعهم وأديارهم، وتنسّكوا عند منابعه، ومنهم أحد الرهبان الذي تنسّك في مغارة ما تزال موجودة تقع قرب بلدة الهرمل شمال البقاع اللبناني.

أما أول من دخل جبال لبنان من الموارنة، فكان عدد من “أبناء مارون” في الربع الأول من القرن الخامس، الذين أرسلهم القدّيس مارون ليبشروا سكان جبال لبنان، فوصلوا إلى نواحي جبة بشرّي وجرود البترون وجبيل، وأهمّهم مار سمعان العامودي الكبير المتوفي سنة 459، الذي وصل إلى قرى شمال لبنان، وكانت وحوش تفترس أهلها، فعمّدهم وأمرهم أن يرسموا سبعة صلبان حول كلّ قرية، فنجوا. وكانوا هم من الموارنة الأوائل المقيمين في لبنان.

ومن التلامذة أيضًا إبراهيم القورشي الناسك، الذي بشّر في جرود بلاد جبيل التي كانت تعرف بجبّة المنيطرة، وكانت من أهمّ المناطق الوثنية في الشرق، فأخذ يجوب قراها يبشّر بكلمة الله فهدى الكثير من الوثنيين ودخل إلى معبد أدونيس الوثني الموجود ناحية أفقا وحوّله كنيسة وكوّن نواة جماعة مارونية في تلك النواحي، وأطلق اسمه على نهر أدونيس الذي أصبح يعرف باسم نهر إبراهيم.

من هنا يمكننا أن نعتبر أنه من سكّان جبال لبنان، الذين اهتدوا على يد تلاميذ القدّيس مارون، وبعضهم كانوا مسيحيين سريان، تشكّلت الطائفة المارونية في لبنان، وعاد وانضمّ إليها الرهبان الموارنة وأتباعهم الذين هربوا من شمال سوريا، وهذا ما يؤكّده الأب بطرس ضو بقوله: معظم الموارنة هم سكّان لبنان الأصليين، وانضمّت إليهم فيما بعد، وعلى دفعات متقطعة، أفواج من الموارنة النازحين من سوريا.

على أثر المجمع الذي عقد في مدينة أفسس عام 449 بدأت الخلافات اللاهوتية في الكنيسة حول طبيعة المسيح الجسدية والإلهية، وتوسّعت بعد مجمع مدينة خلقيدونيا الواقعة على البوسفور المنعقد سنة 451 فانقسمت الكنيسة إلى “الخلقيدونيين” وهم الروم البيزنطيين والسريان الموارنة الذين يؤمنون بأن في المسيح طبيعتين كاملتين “إلهية وانسانية”، وإلى “اليعقوبية” ومنهم السريان اليعاقبة أتباع يعقوب البرادعي أسقف إنطاكيا الذين يؤمنون بأن في المسيح طبيعة إلهية واحدة.

هذا الاختلاف أحدث تنافسًا على كسب النفوذ في شمال سوريا. فاضطهد اليعاقبة بقيادة البطريرك ساويرس بتغطية من الإمبراطور البيزنطي أثناسيوس الموارنة، وقتلوا منهم في 31 تموز سنة 517 ثلاثماية وخمسين راهبًا مارونيًا دفعة واحدة وأحرقوا ديرهم القائم عند نهر العاصي جنوب حلب.

ومن المعروف أن ساويرس هذا يعتبره السريان الأرثوذكس قدّيسًا، بينما تحتقره الكنيسة الكاثوليكية لأن يداه ملطّختان بدماء القدّيسين والرهبان والنسّاك.

تشتّت من نجا من الرهبان من تلك المذبحة ولجأ القسم الأكبر منهم ومن أتباعهم من موارنة شمال سوريا إلى إخوتهم في جبال لبنان الذين كانوا أصبحوا كثر، ووصلوا أولًا إلى منابع العاصي ومنها توغلوا في الجبال فسكنوا نواحي أهدن وجبّة بشرّي وجبال البترون وجبيل، ويؤكّد بعض المؤرّخين أن قسمًا منهم انحدر نحو الساحل ناحية البترون، لاسيّما عند وادي حربا، ولعل مدينة البترون نفسها أضحت من أول مساكن الموارنة، وهذا ما يؤكّده الأب هنري لامنس في كتابه تسريح الأبصار.

على أثر مذبحة دير مار مارون، أرسل من نجا من الرهبان رسالة إلى قداسة الحبر الأعظم البابا هورميذداس أعلموه فيها بما جرى وما قام به ساويروس وأن بطريرك البيزنطيين رفض إحصاء الكاثوليك في عداد المسيحيين وقام بتدمير كافة الكنائس الكاثوليكية، “وقتل الكثير من رهباننا ويجبرنا على احتقار المجمع المقدّس، ونحن مشتّتون البعض هرب إلى دير القدّيس سمعان في نواحي حلب والقسم الآخر إلى جبال لبنان العالية”. ووقّع الرسالة رئيس الدير الناجي من المذبحة ويدعى إسكندر الذي ختم الرسالة بتوقيعه وبقربه هذه العبارة: أنا الراهب إسكندر رئيس دير القدّيس مارون وقعت هذا الالتماس. ووقّع معه من نجا من الرهبان.

في 10 شباط 518 وصل الردّ من البابا وفيه يشدّ من عزيمة الرهبان ويحثّهم على الصمود والبقاء على الاعتراف بكنيسة روما.

يؤكّد بعض المؤرّخين، أن رهبان مار مارون المتنشرين في شمال سوريا، كانوا قبل النكبة التي حلّت بهم لعبوا دورًا دينيًا وتبشيريًا هامًّا، ما أدّى إلى إضعاف سلطة بطريرك أنطاكيا على المناطق التي يتواجدون فيها، ويمكن القول إن الموارنة كانوا يديرون مناطقهم بأنفسهم بدلًا من البطريرك، وحتى بعد النكبة التي حلّت بهم أكمل من نجا من المذبحة رسالته التبشرية، وتوسّعت أديارهم حتى قاربت 40 ديرًا، تحلّقت حولها جماعات من المؤمنين الملتزمين العقيدة الخلقيدونية، ما دفع البطريرك الأنطاكي أفرام أميد (529-545) لتقريبهم إليه مستعينًا بعلمهم وخبرتهم اللاهوتية، وعندما زار الأمبراطور هرقل (610-641) سوريا وهب الرهبان الموارنة كلّ الأديار التابعة للمونوفيزيين، ويقول المؤرّخ ابن العبري أن ذلك الإمبراطور كان مارونيًا.

اِعتبارًا من أواخر القرن السادس انتقل النشاط الماروني من شمال سوريا قرب حلب إلى منابع نهر العاصي في منطقة بعلبك-الهرمل اللبنانية وجبال شمال لبنان، فانتشرت المارونية بكثافة ويؤكّد البعض وصولهم إلى نواحي دمشق حيث بنوا ديرًا هناك.

قد يكون من أسباب هذا الانتشار أن هذه المناطق عالية ووعرة ومن الصعب على الجنود القادمين من سهول القسطنطينية أو أنطاكيا اختراقها بسهولة.

في تلك المرحلة، بدأت الهويّة المارونية بالبروز وتبلورت مع ظهور عدد من الصلوات الخاصة بالموارنة.

في القرن السابع خرجت أنطاكيا نهائيًا عن سلطة القسطنطينية بعد أن اجتاحتها الجيوش الإسلامية سنة 636، وأصبحت المدينة من دون بطريرك وعمد الأساقفة في القسطنطينية إلى انتخاب بطريرك فخري لأنطاكيا يقيم في القسطنطينية، لم يكن يمارس من مهامه شيئًا.

بعد سيطرة الخليفة معاوية على بلاد الشام، سمح للمسيحيين الخلقودنيين الملكيين الذين يتبعون كنيسة روما برسامة بطريرك لأنطاكيا فرسموا بطريركًا أقام قي دمشق وكان شرعيًا كنسيًا ودعي باسم ثيوكلفت، ولكن خليفة معاوية مروان ومن ثم عبدالملك منعوا انتخاب البطاركة. وكان البيزنطيون توقّفوا قبل زمن عن رسامة البطاركة الفخريين لأنطاكيا، وأضحت أحوال المسيحيين ضائعة من دون بطريرك.

في هذا الوقت، ورغم كلّ ما تعرّضوا له، كان عدد الموارنة أصبح كبيرًا وانتشارهم يمتد من سهول حلب وحمص شمالًا حتى قمم جبل لبنان نواحي نهر إبراهيم جنوبًا، ولما كان كرسي أنطاكيا شاغرًا اجتمع الرهبان الموارنة وانتخبوا عام 686 الراهب يوحنّا مارون، وكان أسقفًا على مدينة البترون منذ عام 675 بطريركًا على كرسي أنطاكيا. وهو أول بطريرك ماروني على كرسي أنطاكيا والبطريرك الثالث والستون بعد القدّيس بطرس مؤسّس الكرسي في القرن الأول ميلادي: بهذا الانتخاب بدأ بناء وتنظيم الكنيسة المارونية على الصعيد الكنسي والوطني والاجتماعي.

لم يكن هدف الموارنة عند انتخاب بطريرك منهم تأسيس كنيسة منفصلة عن الكنيسة الجامعة، بل تعبئة فراغ بعد شغور الكرسي البطريركي الأنطاكي بوفاة البطريرك أنستاز الثاني في أيلول 669 وبقاء الكرسي شاغرًا. وحفظ الرعية من التشتّت والارتهان والذوبان. وتسريع شؤون المؤمنين لأن روما بعيدة جدًا عن الشرق. لذلك فور انتخابه بطريركًا طلب البطريرك يوحنّا مارون درع التثبيت من قداسة الحبر الأعظم خليفة القدّيس بطرس، فوافق البابا على الانتخاب وأرسل درع التثبيت، فأصبح البطريرك الماروني خليفة القدّيس بطرس في رئاسة الكنيسة الأنطاكية. وراح البطاركة الموارنة يضيفون اسم بطرس إلى أسمائهم.

عند انتخابه حاول البطريرك يوحنّا مارون العودة إلى دير مار مارون، لكنه سرعان ما عاد إلى جبال لبنان حاملًا معه هامة القدّيس مارون، وحلّ في بلدة كفرحي في بلاد البترون وشيّد دير “ريش مارو” ومعناه رأس مارون، وضع فيه جمجمة القدّيس مارون وأقام فيه.

بقي الموارنة معتصمين في جبال لبنان الشمالية الممتدة من إهدن وجبّة بشرّي إلى جبّة المنيطرة قرب منابع نهر أدونيس “إبراهيم” حتى وصول الحملات الصليبية، فهبطوا من جبالهم لملاقاتها. وكان اللقاء الأول في سهل عرقا في عكّار، ومن هناك سار الفرسان الموارنة مع الحملة إلى مدينة القدس.

رغم التعاون الوثيق بين الصليبيين والموارنة، بقي الانتشار الماروني جنوب نهر إبراهيم محدودًا جدًا، وبعد سيطرة المماليك في القرن الثالث عشر تعرّض الموارنة لأبشع اضطهاد عرفوه في تاريخهم، لم ينج منه حتى بطاركتهم فعادوا يتحصّنون على قمم الجبال.

مع دخول العثمانيين تغيّرت أحوال الموارنة، ومطلع القرن الخامس عشر بدأوا بالتوسّع نحو كسروان وكان انتشارهم فيها سريعًا حتى صارت المقاطعة الكسروانية في القرن السابع عشر كلّها مارونية، وأكملوا جنوبًا خصوصًا أيام حكم الأمراء المعنيين فنزلوا المتنين وحلوا في المناطق الشوفية ومنها توغلوا حتى وصلوا إلى شمال فلسطين وبر الشام.

حمل الموارنة طوال 1600 سنة من مسيرتهم عدّة تسميات هي:

– أبناء مارون: هم تلامذة وأتباع القدّيس مارون الذين عاشوا في الصوامع والأديرة وانطلقوا يبشّرون بكلمة الله.

– المارونية: أول من ذكر هذه التسمية المؤرّخ العربي المسعودي في القرن العاشر.

– الأمة المارونية: تعود هذه التسمية إلى زمن الصليبيين.

– الطائفة المارونية: بدأ الكلام عنها في القرن السادس عشر وذكرها البطريرك الدويهي في كتاباته.

– الكنيسة المارونية: أتت على لسان قداسة الحبر الأعظم البابا يوحنّا بولس الثاني.

من جبال لبنان امتدت أغصان الدوحة المارونية إلى كلّ أنحاء العالم، ولكن بقي وطن الأرز ركيزة الكيان الماروني. وما زال الموارنة يستشفعون كلّ حين أباهم القدّيس مارون صارخين إليه:

باسمك دعينا يا أبانا وعليك وطّدنا رجانا كن في الضيقات ملجانا واختم بالخير مسعانا

نبيل يوسف

السبت 8 شباط 2020