وكان ذلك اليوم… انه أيلول، لطالما كان يعبر عبور الفارس الجميل في ضياع جبل لبنان، فينعش الأرض بأمطاره الخفيفة، كيف لا؟ و”طرفه بالشتي مبلول”، ونسائمه الباردة ترطب الوجوه، فيه تتفكك العرازيل من على سطوح المنازل، تتساقط أوراق الاشجار بلونها الأصفر وتسقط معها الذكريات على أرض منها يصنع الفلاح اللبناني مونة أيلول.
في بلدتي كفرعبيدا كان أيلول تلك الحقبة يجلب لنا خريفا، وطال الخريف، أطل أيلول على هضابنا من دون شباب فيه تطارد الأحلام ومن دون أطفال تلاحق الطيور المهاجرة. تلك السنة أيضا أتى أيلول بأجواء حزينة وهكذا يغادر، كيف تفرح تلك الهضاب التي تغسل أقدامها في البحر وقد هدم بيت الحزب، والمنازل، منها ما هدم ومنها احتل من قبل أناس غرباء، وشبابها هجر، كيف لي الا أكون حزينا؟ انا الذي كنت أغادر عمر الطفولة، ارى ملاعب الصبا فارغة من أهلها، تلك الساحة التي منها كانت تزف الشهداء بأعراس البطولة، أعراس تفوح منها رائحة الغار معلنة عن نصر كان يخرج من أحشاء امهات كفرعبيدا، تلك الساحة حيث فيها صليب منتصب على قبة كنيسة تخبر عن المسيحيين في هذا الشرق. ساحة غابت عنها بنادق الحرية وسكن بجوارها رتل من جنود الأسد في خيمة لونها يشبه أيامهم.
وكان ذلك اليوم، 14 أيلول 1982، يوم قتلوا البشير، كنت صغيرا، افتش بين الجلال المزروعة بأشجار اللوز والزيتون، وبين العشب اليابس عن رمق حياة وعن فتات أمل، بعد أن قتلوا الأمل، في لحظة من سخافة الزمان سمعت طلقات الرصاص إبتهاجا، رصاصات أطلقت من بندقية جندي أتى من دير الزور وحلب وحماة ودرعا، ومن الحسكة واللاذقية، وبكل وقاحة وفجور يطلق النار وكانه يوم عرس، لقد قتلوا البشير، يطلق النار من الكلاشينكوف التي قايض بها زعيمه روسيا بخيرات سهول سوريا من قمح وحبوب، بندقية قيل له انها لمحاربة إسرائيل، الا انها لم تطلق رصاصة واحدة في جولانهم, ولا على حدودهم مع تركيا حيث سلب منهم لواء إسكندرون، انهم لا يطمعون الا في اللواء المسلوخ وهو في نظرهم لبنان.
تلك الطلقات اليتيمة أبكتني يوما صغيرأ، وانحنى رأسي، يومها لم أكن أعرف ان الغد سيكون غير اليوم، يومها لم أكن أعرف أن عدالة السماء هي أعظم وأبهى من عدالة الأرض.
هذه العدالة جعلت من جنود الأسد الذين قصفوا الأشرفية وبيروت وزحلة وقنات، جعلت منهم ومن عائلاتهم هدفا لنيران الأسد، هم من صمتوا عن الحق يوم هجرنا وسجننا وقتلنا، شاركوا في الجريمة وصمتوا عن الحق والصامت عن الحق شيطان أخرس.
كبير أنت يا شعب لبنان، ها أنت تجعل من مدنك، قراك ومنازلك ملاجئ لأحفاد وأبناء جنود قتلوك وأذلوك.
كبير أنت أيها البشير، كما أخبرتهم، فمدنهم تحترق وهم يرحلون في بقاع الأرض، دولهم تتفكك، أما بيوتنا فعمرت بالسواعد والإيمان، اهلنا عادوا الى أرض أجدادهم مع عيال أصبحت كبيرة، أما أنت فنراك كل يوم في عيون أطفالنا التي تولد في قرى لبنان، ونسمع خطاك وصوتك مع كل نسمة قادمة من جبال الأرز، ونجدد لك الوعد مع كل موجة تتكسر على صخور بحرنا، أيها البشير النشيد ما زلنا نصلي لك في كنائسنا على ألحاننا السريانية ونشم عطرك في رائحة البخور العتيق.
*إعلامي لبناني – مؤسس سيدر نيوز