من خوابي البترون العتيقة – رابطة قضاء البترون – بيروت

نبيل يوسف**
بعد نيل لبنان إستقلاله وانتهاء الحرب العالمية الثانية، شهد النصف الثاني من أربعينيات القرن المنصرم مرحلة إستقرار رافقها إزدهار كبير، خاصة في بيروت، التي أصبحت مقصداً للكثير من شباب القرى الذين هبطوا إليها للعمل. وفي تلك الفترة عاش المزارع بحبوبة مادية، فأرسل أولاده لإكمال دراساتهم في معاهد وجامعات بيروت.


لم تشذ بلاد البترون عن باقي المناطق اللبنانية، بحيث قصد العديد من شبانها بيروت للعمل أو لإكمال تحصيلهم العلمي، وكانوا بأكثريتهم الساحقة ينزلون إلى العاصمة للمرة الأولى فراحوا يلاقون صعوبات كثيرة، وكان العديد منهم يتردد إلى الأب يوحنا قمير وهو من تنورين طلباً للمساعدة أو للمشورة.


يوماً إلتقى الأب قمير صديقه الصحافي في جريدة العمل إميل أبي نادر وهو من بلدة غوما، ومن المواضيع التي تداولا فيها قضية الطلاب البترونيين الذين يقصدون العاصمة ولا من معين أو سند لهم، واتفقا على تأسيس جمعية بترونية تجمع أبناء بلاد البترون المقيمين في بيروت، وقررا دعوة عدد من البترونيين للتداول في هذا الموضوع، وتكفل إميل أبي نادر بتأمين قاعة للاجتماع في بيت الكتائب المركزي في الصيفي.


عصر الجمعة 22 شباط 1952 التقى 47 شاباً وصبية من بلاد البترون فأطلعهم الأب قمير والصحافي أبي نادر على الهدف من اللقاء شارحين ايجابياته، فأبدى الجميع ترحيبهم واستعدادهم للعمل على انشاء الجمعية، وفي نهاية اللقاء اتفق على تكليف اميل أبي نادر توجيه الدعوات إلى الاجتماعات التالية، وتشكيل لجنة مصغرة من الأب يوحنا قمير والخوري طانيوس خشان من عبرين ونجلا شديد من إده ومالك بصبوص من غوما وبيار خليفة من راشانا وسابا سابا من كور، مهمتها وضع نظام أساسي وداخلي للجمعية وعرضه على باقي المشاركين.


مع اطلالة ربيع ذلك العام، كانت الجميعة بدأت بالتكون واتفق على تسميتها رابطة قضاء البترون – بيروت، وفي 30 أيلول 1952 نالت العلم والخبر تحت رقم 3038 وضمت الهيئة التأسيسية: إميل أبي نادر ممثلاً تجاه الدولة، ومالك بصبوص وبيار خليفة ونسيب طربيه من تنورين.


بحسب النظام الأساسي من أهداف الرابطة تعريف أبناء المنطقة المقيمين في بيروت وضواحيها على بعضهم البعض، ومساعدة الشبان البترونيين الذين يقصدون العاصمة للعمل أو لمتابعة تحصيلهم العلمي.
أقلعت الجمعية، وكان شرط الانتساب أن يكون المنتسب من بلاد البترون ومقيماً في بيروت أو ضواحيها، وسرعان ما انتشرت بين أبنا

ء منطقة البترون المقيمين في العاصمة وضواحيها، الذين انضموا إليها بالعشرات، وانتخبت أول جمعية عمومية اميل أبي نادر رئيساً للجمعية.
طوال حقبة الخمسينيات ازدهرت الجمعية، وكانت إجتماعات الهيئة الإدارية تعقد في منزل أحد أعضائها، فيما الجمعيات العمومية والنشاطات تعقد في البيت المركزي الكتائبي أو مقر الندوة اللبنانية، أو إحدى قاعات السينما.
لم يقتصر نشاط الرابطة وقتها على جمع أبناء المنطقة ومساعدتهم، بل رفعت إلى المراجع المختصة الكثير من المطالب التي تهم بلاد البترون وسعت لتحقيقها. ولقيت دعماً من العهد الشمعوني الذي قدّم لها عدة مساعدات.
مطلع الستينيات مع إطلالة العهد الشهابي، راح نشاط الرابطة يضعف وتركها معظم الأعضاء، كما عرفت انشقاقاً، ولولا بعض الأعضاء خاصة الأب قمير واميل أبي نادر لكانت اندثرت.
لماذا وصلت الرابطة إلى هذا الوضع؟.
بحسب بعض الناشطين في صفوفها وقتها أن الشعبة الثانية الداعمة للعهد الشهابي التي قبضت على الحياة العامة يومها، لم تنظر للرابطة بارتياح، خاصة والعديد من أعضائها من مؤيدي الرئيس كميل شمعون والعميد ريمون إده، ويجاهرون بمواقفهم العدائية ضد الأجهزة الشهابية، فحاول ضباط الشعبة الثانية بداية إستمالة مسؤولي الرابطة ولما فشلوا حاولوا حلها ففشلوا أيضاً، فما كان منهم إلا أن شجعوا بعض أعضائها ممن إرتبطوا بعلاقات معهم على الانفصال عنها وتأسيس جمعية بترونية ثانية عرفت باسم الشباب البتروني المثقف، لكن هذه الجمعية ورغم الدعم الذي أعطي لها لم تعمر أكثر من عام فتفرق المنتسبين اليها وغادر كلٌ باتجاه، وبقيت الرابطة لكنها أصبحت ضعيفة لا يتعدى عدد أعضائها 20 عضواً وأضحت شبه منعدمة النشاط.
مع إطلالة النصف الثاني من الستينيات شهدت الرابطة عملية تجديد واسعة، مع دخول حزب الكتائب اللبنانية بقوة إليها، فماذا جرى يومها؟.
ربيع العام 1964 جرت الانتخابات النيابية ورشح حزب الكتائب الدكتور إميل حكيم في دائرة البترون، ولكن لظروف خاصة لم يتحالف مع مرشح ثانٍ وأكمل منفرداً ونال 2980 صوتاً، ما إعتبره حزب الكتائب رقماً مهماً يمكن الاستناد إليه للتحضير للدورة الانتخابية القادمة.
أواخر صيف 1964 دعا الشيخ يوسف الضاهر رئيس مجلس أقاليم الشمال في حزب الكتائب جميع المسؤولين الكتائبيين في منطقة البترون إلى إجتماع لدرس المرحلة المقبلة، فكان إجماع لدى المشاركين من أن الرقم الذي حصل عليه مرشح الحزب مهم جداً والمطلوب العمل الجدي خلال السنوات الأربع القادمة للتمكن من الانتصار في دورة العام 1968 وعلى الأثر تشكلت لجنة تنفيذية لإقليم البترون الكتائبي برئاسة إميل حكيم من البترون ومعه غريب منعم من كفيفان نائباً للرئيس وشفيق أبي صالح من ضهر بو ياغي أميناً للسر ويوسف راجي من كور أميناً للصندوق. وعضوية حنا سليمان من عبرين وجان أنطون من شكا وجورج أبي سلوم من كفرعبيدا وأنطوان رامح مارون من بشعله وكنعان نجم من إده وباستيد منعم من اجدبرا وفارس سعاده من شبطين.
بعد أشهر على تشكيلها قررت اللجنة خلق إطار يستطيع حزب الكتائب من خلاله تنظيم نشاطات بمشاركة غير حزبيين، فاقترح البعض تأسيس جمعية اجتماعية ثقافية، هنا تذكر أحد المشاركين أن رابطة قضاء البترون ما تزال قائمة وان غير ناشطة ويترأسها كتائبي هو اميل أبي نادر ومعه في الهيئة الإدارية كتائبيان هما الدكتور جورج سعاده (النائب والوزير) وميشال مخلوف من عبدللي: فلما لا تكون هي الإطار الذي تتبناه الكتائب، فوافق الجميع وتم تكليف شفيق أبي صالح درس وضع الرابطة وتقديم تقرير حول أنجح السبل لإعادة تنشيطها.
بحسب التقرير ولاية الهيئة الادارية الحالية للرابطة تنتهي أواخر العام 1964 ولم يعد فيها أكثر من 20 عضواً ولا حل لإعادة تنشطيها سوى بفتح باب الانتساب إليها وضخ دم شبابي جديد فيها.
وافقت اللجنة على التقرير وقررت تكليف عضوي الهيئة الإدارية للرابطة جورج سعاده وميشال مخلوف السعي لفتح باب الانتساب إليها، في نفس الوقت يتم تحضير طلبات المطلوب تنسيبهم.
تمكن جورج سعاده وميشال مخلوف من إقناع الهيئة الإدارية بفتح باب الانتساب والدعوة إلى انتخابات جديدة، وفي خلال أيام قليلة انتسب إلى الرابطة 80 شاباً بترونياً يدرسون أو يعملون في العاصمة معظمهم من الكتائبيين.
مساء السبت 23 كانون الثاني 1965 وفي الموعد المحدد لإنتخاب هيئة إدارية جديدة، حضر إلى الندوة اللبنانية حيث تجرى عملية الانتخاب المنتسبين الجدد وقرابة 10 أعضاء من القدامى، وانتخبوا هيئة إدارية جديدة مؤلفة من: جورج سعاده من شبطين رئيساً، وجورج راجي من كور مفوضاً عاماً، وشفيق أبي صالح من ضهر بو ياغي مقرراً، وكوليت أبي راشد من بجدرفل أمينة للصندوق، وأنطوان قهوجي من إجدبرا محاسباً، وحنا سليمان من عبرين ومنعم منعم من كفيفان مفوضي طبابة، ورجا إبراهيم من مسرح وجوزف الياس الخوري من بشعله مفوضي شؤون إجتماعية، وفيليب طربيه من تنورين مفوض قانون، وميشال مخلوف من عبدللي ونبيل خليفة من حدتون مفوضي ارتباط.
مع تشكيل الهيئة الإدارية الجديدة بدأ عهد جديد للرابطة، وسرعان ما وصل عدد المنتسبين إلى ما يفوق 150 عضواً، وكانت الهيئة الإدارية تعقد اجتماعاتها في منزل جورج سعاده في الجعيتاوي، ونشاطاتها في مقر الندوة اللبنانية.
مطلع العام 1966 استأجرت مقراً لها في محلة فسوح شارع شكري شقير في الطابق الأول من بناية منصور الريف. سرعان ما تحول إلى بيت بتروني وأصبح محطة شبه ثابتة لمعظم أبناء بلاد البترون يعرجون عليه قبل صعودهم إلى المنطقة أو فور عودتهم منها، وغدا محطة أولى لشباب بلاد البترون القاصدين بيروت للمرة الأولى للعمل أو لإكمال تحصيلهم العلمي فيلاقون فيه كل الارشادات التي يطلبون، وحتى مساعدات مادية بسيطة لتدبير شؤونهم، كما أصبح مقراً يضع فيه سائقو الأجرة البترونيين الأغراض التي يرسلها معهم الأهالي لأبنائهم في بيروت. وما كان على أي شاب من بلاد البترون مقيم في بيروت ويريد أن يعرف أي خبر عن بلدته سوى التوجه إلى مقر الرابطة.
طوال حقبة النصف الثاني من الستينيات لم يمر شهر إلا وفيه نشاط للرابطة ما خلا أشهر الصيف الثلاثة التي يتوجه خلالها معظم الشبان البترونيين إلى قراهم، وكان أبرز نشاطين حفلين سنويين درجت عليهما: الحفل الأول تقيمه في فترة أعياد الميلاد ورأس السنة ويكون بمثابة حفل كوكتيل، والثاني حفل عشاء كبير تقيمه مطلع الربيع ويعود ريعه لتنفيذ نشاطاتها.
خريف العام 1967 رشح حزب الكتائب رئيس الرابطة الدكتور جورج سعاده للمقعد النيابي في منطقة البترون، فاستنفر جميع الأعضاء دعماً له، وكان عددهم تجاوز 300 منتسب فعادوا في فترة الانتخابات إلى قراهم البترونية وشكلوا رافعة مهمة ساهمت في إنجاحه محققاً رقماً كبيراً جداً
يومها إقترع في منطقة البترون 15310 ناخباً ونال جورج سعاده 8073 صوتاً وحل أولاً متخطياً قيادات بترونية لها أعوام طويلة في العمل السياسي والنيابي.
من المسلًم به لدى جميع دارسي تلك الحقبة، أن أعضاء رابطة قضاء البترون الكتائبيين منهم وغير الكتائبيين شكلوا دعماً هاماً لجورج سعاده في معركته الانتخابية، فهؤلاء الشبان الذين نزلوا إلى بيروت للعلم عادوا إلى قراهم البترونية يحملون الشهادات أو على قاب قوسين من حملها، وأضحوا بين أهلهم وأقاربهم مرجعيات يسمع رأيها فأثروا على عائلاتهم وأقاربهم وأقنعوهم بالتصويت لجورج سعاده. والبعض يعتبر الرابطة التي قدّمت جورج سعاده على منبرها خطيباً في حفلاتها لأربع سنوات من أهم العوامل التي أنجحته والتي تأتي بالمرتبة الثانية بعد حزب الكتائب.
فاز جورج سعاده وشعر جميع أعضاء الرابطة أنهم دخلوا المجلس النيابي، وفي أول نشاط له بعد انتهاء فترة تقبل التهاني التقى النائب الجديد أعضاء الرابطة شاكراً جهودهم ومعاهداً على أن يستمر واحداً منهم.
كان من الطبيعي بعد انتخابه نائباً أن يقدم جورج سعاده استقالته من رئاسة الرابطة التي انتخبت حنا سليمان من عبرين رئيساً لها.
مع انتخاب جورج سعاده نائباً بدأ نمط جديد من العمل النيابي في منطقة البترون، فأسس مع بعض أعضاء الرابطة ما أسموه برلمان الشعب، بحيث يلتقي النائب الأهالي مرة كل شهر يستمع إلى مطالبهم ويبلغهم بما استطاع تحقيقه، فعقدت عدة لقاءات في دير كفرحي ودير حوب ودير كفيفان ودير الآباء الكبوشيين في البترون ومدرسة الرهبان في شكا ودير سيدة النورية.
مطلع السبعينيات تغير الوضع في البلد، وأضحت المواصلات أسهل بكثير من العقدين السابقين وما عاد التواصل بين العاصمة وبلاد البترون صعباً كما كان سابقاً، حتى أصبح معظم الذين يتوجهون إلى بيروت للعمل أو لمتابعة تحصيلهم العلمي يعودون يومياً أو أسبوعياً إلى المنطقة، فخف نشاط الرابطة وما عاد يستقطب الشباب البتروني فأعيد المقر إلى أصحابه، وحلت الرابطة دون أن يعلن حلها، ومن أعضائها انبثقت جمعيتان بترونيتان: الأولى دعيت جميعة الإنماء البتروني وترأسها أنيس حرب من دير بلا، والثانية المجلس الثقافي البتروني وترأسها الخوري بولس الفغالي من كفرعبيدا، وتقرر أن تواكب الجمعيتان النشاط البتروني كلٌ في إختصاصها وتكون بديلاً عن الرابطة، فنشطت الجمعيتان ولكن أتت الحرب عام 1975 فتوقف نشاطهما وفي ثمانينيات القرن المنصرم أعيد تنشيط الجمعيتان لتتوقفا مجدداً بعد وفاة الدكتور جورج سعاده
ما لا شك فيه أن رابطة أبناء قضاء البترون في بيروت التي يعود الفضل في تأسيسها إلى الأب يوحنا قمير، وإلى إقليم البترون الكتائبي في إعادة تنشطيها قدّمت لشباب بلاد البترون المقيمين في بيروت الكثير من الخدمات قد يكون من أبرزها أنها جمعتهم مع بعضهم البعض وربطتهم بصداقات ما تزال قائمة فيما بينهم، ورغم أن الكثير منهم رحل، ومن بقي على قيد الحياة أصبح في العقدين السابع والثامن من العمر، وأصبحوا متقاعدين في قراهم البترونية، فهم يحنون إلى الرابطة وعندما يبدأون بالحديث عنها تكاد الدموع تنهمر من عيونهم، فقد قضوا معظم شبابهم ينشطون في صفوفها، وهم يتمنون على شباب بلاد البترون أن يستطيعوا تأسيس جمعية كرابطتهم تقدم لشباب المنطقة ولو القليل مما إستطاعوا أن يقدموه بإمكانيات ذلك الزمان.
**كاتب ومؤرخ