ترافقت معاصر الزيتون مع حقبات تاريخية شهدها لبنان، وجسّدت طقوسها وعاداتها الاجتماعية جزءاً من تراثه الشعبي، ونسجت حكايات ودردشات حول رونق الزيتون ونكهته. ومثّل الزيتون الذي يبدأ موسم قطافه وعصره بحلول الخريف، بصمود حبّاته أملاً بحياة جديدة تبعثها قطرات الزيت الندية. أما حجر المعصرة فيختزل بصلابته محصول زيت يؤمّن للمزارعين مؤونة الشتاء، وكميات إضافية اعتادوا تخزينها في خوابي الفخار، قبل أن يستخدموا غالونات بلاستيك لبيع الزيتفي الأسواق.
بين المعاصر القديمة والحديثة، قصص لمزارعين وأهالي قرى، تحلّقوا حولها لتبادل الأحاديث وإطلاق العنان للأغاني والأمثال الشعبية. ابتسموا لنكتة من هنا ومزحةٍ من هناك، في انتظار دورهم للحصول على زيت جديد شهي الرائحة والمذاق. ووسط الأزمة الاقتصادية الحالية في لبنان التي “تعصر” جيوب اللبنانيين والمقيمين، نجد المعصرة اللبنانية أمام إشكاليات جديدة بدّلت بعض أحوالها. لكن الواقع المرير لم يمنع الأهالي من التجمّع والسهر حولها، واسترجاع ذكريات جميلة وضحكات عابرة، علّها تهرس كحجر المعصرة عذاباتهم ومآسيهم.
عادات اختفت
يعزو معن عمر محمد إغلاقه معصرته في بلدة عيدمون بمحافظة عكار (شمال) مع بدء الأزمة عام 2019، إلى واقع أن الكلفة باتت تفوق المدخول. ويشرح أن “العلاقة بين صاحب المعصرة والمزارعين لم تتغيّر، لكنّ كلفة أجور العمال والصيانة وأسعار المحروقات ارتفعت. كما تحوّل البعض من شراء تنكة من الزيت أو أكثر إلى بضع ليترات”.
ويتذكر العادات القديمة لموسم عصر الزيتون وبينها نقله بواسطة مواش، ويقول: “لا تزال التقاليد الموروثة موجودة إلى حدّ ما، لكن بعضها اختفى، وبينها تقديم صاحب المعصرة خدمات مجانية لزبائنه تشمل نقل الزيتون من الأرض إلى المعصرة، ثم توصيل الزيت إلى المنزل. واليوم يجلب كل فرد محصوله بنفسه”.
ويتكلم معن بحسرة عن إحضار صاحب المعصرة فطوراً من معجنات المناقيش والشاي وخبز التنّور الساخن المغمّس بالزيت الجديد، وأيضاً سندويشات للعشاء. وهذه عادات تختزل ما يتميّز به لبنان من كرم وضيافة، لكن ثمن سندويش الفلافل (سندويش الفقراء)، على سبيل المثال، يبلغ 20 ألف ليرة لبنانية (83 سنتاً).
ويشير معن الذي يرأس الجمعية التعاونية لتنمية قطاع الزيتون في منطقة الدريب الأعلى والأوسط في عكار إلى أن “الجمعية حاولت النهوض بالمنطقة المحرومة عبر إنشاء مركز لتخزين الزيت بعد فحصه، واشترت لهذا الغرض 11 خزاناً لحفظ الزيت وفق معايير عالمية، واهتمت بتسويق إنتاج المزارعين محلياً وتصديره إلى الخارج، كما خطّطت لإنتاج زيت بنكهات متنوّعة مثل الحر والزعتر والحامض، لكن الظروف منعت التنفيذ”.
ويؤكد أن كميات الزيت ترتبط بالدرجة الأولى بالزيتون وليس بالمعصرة، لكنه يستدرك بأن “المعصرة الحديثة تعطي كميات أكبر من تلك التي تعمل على الحجر، وتحافظ على النكهة والجودة، وتكسبها مواصفات تسمح بتصديرها”.
لا مفر من عصر الزيتون
وفي البترون (شمال)، يتحدث نبيل أنطون لـ”العربي الجديد عن المعصرة التي أسّسها والده طنّوس قبل 14 عاماً ويديرها مع إخوته اليوم، ويقول: “إنها تعمل على الحجر، وتستقطب زبائن كثراً رغم الظروف الصعبة، لأن عصر الزيتون حاجة لا مفر منها. ومن اعتاد العصر على الحجر يبقى متمسكاً بالطريقة التقليدية التي تمنح الزيت جودة عالية على صعيد اللون والنكهة والكثافة والحفاظ على الرائحة والمذاق الطيب لفتراتٍ طويلة”.
ويسرد أن “مزارعي الزيتون كانوا يسددون ثمن عصر محصولهم بكمية من الزيت أو مبلغ مالي، لكن غالبيتهم يفضلون اليوم دفع المال والاحتفاظ بالزيت، خصوصاً أن التنكة التي تبلغ زنتها 15 كيلوغراماً تُباع بمائة دولار، قفز سعرها من 150 ألف ليرة لبنانية وفق سعر الصرف الرسمي، إلى 2.4 مليون ليرة وفق السوق السوداء”. يضيف: “من الطبيعي أن ترتفع كلفة عصر الزيتون مع ارتفاع أجرة العمال وقيمة المازوت والكهرباء، وكلفة صيانة المصافي وقطع الخيش الدائري المعروفة بالقفف التي ندفع ثمنها بالدولار أو وفق سعر السوق السوداء”.
ويلفت نبيل إلى أن “العادات لم تتغير على صعيد تحلّق المزارعين وزبائن المعصرة حولها للدردشة وتذوّق زيتهم الجديد مع ما أمكن من مأكولات، لكن الهموم المعيشية تطغى على الأحاديث”.
مواسم عابقة بالحياة
وفي بلدة مجدليا بقضاء عاليه، حيث شيّدت منذ أكثر من مئة عام معصرة شفيق جميل مطر وأولاده، والتي حُملت معدّاتها وقطعها على أكتاف رجال وشباب ودحرجوا بعضها الآخر خصوصاً تلك الثقيلة، بدءاً من مفرق البلدة وصولاً إلى المعصرة، بسبب عدم وجود طريق حينها، يروي صاحب المعصرة سامر مطر لـ”العربي الجديد” أن “المعصرة قديمة وتعمل على الحجر، وتعود لأيام والد جدي. ولا تزال مفضّلة لدى كُثر يعلمون أن المعاصر الحجرية تتميّز عن الحديثة بعصر الزيتون على البارد والحفاظ على نوعية الزيت، خصوصاً إذا كان للاستخدام المنزلي وليس التجارة، في حين تعمل المعاصر الحديثة على البخار، وتجعل الزيت يخسر مواد أولية ورقيقاً، وتعرضه لتغيّر اللون بعد 3 أو 4 أشهر”.
ويشير إلى أن “أزمة الدولار رفعت سعر الزيت والزيتون بتأثير ارتفاع أسعار المحروقات وكلفة صيانة القطع والمعدات وأجرة العمال”، ويتذكر مواسم الزيتون العابقة بالمحبة والألفة والنخوة، بالقول: “رغم كل ما نعيشه اليوم، لم تتغيّر العادات والتقاليد الموروثة للمعصرة، فالأهالي والمزارعون لا يزالون يجتمعون حولها. يأتون بخبز الصاج ويغمّسونه بزيتهم الجديد فيحظون بما يسمّونه خبز بعيّة الذي يأكلونه مع اللبنة البلدية ودبس البندورة والزعتر والكشك البلدي والزيتون الجديد”.
“عتابا وميجانا”
وفي بلدة مجدل سلم بقضاء مرجعيون (جنوب)، يفتح هشام فرحات أبواب معصرته ليلاً نهاراً أمام أهالي بلدته والقرى المجاورة، ويعصر حبات الزيتون وسط أجواء قروية تبحر بهم بعيداً عن التحديات المعيشية الأليمة. ويشرح لـ”العربي الجديد” أن موسم الزيتون في الجنوب، مثل موسم التبغ، يُعد محطة تقليدية سنوية تجمع الأهالي كباراً وصغاراً، في مشهد ينبض بالروح والحياة والأمل”.
ويروي أن الأهالي كانوا ينامون في المعصرة قديماً، وينتظرون دورهم ليومين أو ثلاثة أيام، قبل أن تنتشر المعاصر في مناطق كثيرة. ويشير إلى أن “موسم الزيتون كان يجلب فرحة وبهجة بات اللبنانيون يتوقون إليهما، فهم كانوا يتوافدون إلى المعصرة للسهر وعزف الناي والعود، ويرددون مواويل شعبية من العتابا والميجانا”.
ويثابر هشام منذ 13 عاماً على الاهتمام بمعصرته القديمة، فهو يؤيد القطع الحجرية التي يرى أنها تحفظ النكهة والجودة، حتى لو استغرقت العملية ساعات. ويقول: “غالبية زبائني من الجيل القديم، أما الشباب فيحبّذون المعاصر الحديثة بسبب سرعتها، علماً أنّ نكهة الكبة النية على البلاطة المشهورة في قرى الجنوب، لا تشبه إطلاقاً كبة الخلّاط”. يضيف: “ربّما تنتج المعاصر الحديثة كميات أكبر، لكن بعد شهرين يتغيّر الزيت ليشبه زيت القلي، في حين أن الزيت على الحجر يبقى من سنة لأخرى، وكأنّه معصور اليوم”.
سارة مطر ــ العربي الجديد