كيف تواجه المتاحف البريطانية ماضيها الاستعماري تضامنا مع حركة “حياة السود مهمة”؟

عندما تبدأ المتاحف البريطانية استئناف نشاطها الشهر المقبل، ستخطو خطوات في عالم جديد للغاية، ليس فقط في عالم يحيطه التباعد الاجتماعي وارتداء الكمامات، بل ربما في عالم آخر وفي عصر ثقافي مختلف.

أعقب وفاة المواطن الأمريكي من أصل أفريقي، جورج فلويد، احتجاجات عالمية دعت إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة العرقية، وانصب غضب المواطنين على تماثيل تذكارية لأفراد مثار جدل يعودون إلى حقبة الاستعمار البريطاني، كما سُلط الضوء على المتاحف ومقتنياتها، في خطوة يراها البعض تحولا للمفاهيم بين الأجيال.

وأعربت العديد من المتاحف عن تضامنها مع حركة “حياة السود مهمة”، ولكن ما هي الإجراءات التي ستتبع تصريحات تلك المؤسسات التي تربطها صلات بماضي الإمبراطورية البريطانية؟

يشغل البرفيسور دان هيكس منصب كبير أمناء متحف “بيت ريفرز” في أكسفورد، وهو متحف يضم مجموعة أنثروبولوجية كبيرة تصل إلى نحو 600 ألف قطعة من كل دولة تقريبا على هذا الكوكب.

وكان المتحف قد أُدرج قبل عام على القائمة المختصرة لنيل جائزة “متحف العام” المرموقة، وهي جائزة مُنحت، جزئيا، تقديرا للتعديلات التي قام بها هيكس لمجموعة مقتنيات “بيت ريفرز” على مدى السنوات الأربع الماضية.

استطاع هيكس وزملاؤه إعادة تقييم العديد من القطع وإعادة تعريفها وتقديمها من جديد من منظور الثقافة التي جاءت منها، على نقيض الشخص الأبيض البريطاني الفيكتوري، الذي تأسس المتحف لعرض مجموعته الإثنوغرافية (العرقية).

ويعد هيكس من الأصوات الرائدة لخبراء المتاحف الذين يدعون إلى إعادة (رد) القطع الثقافية المتنازع عليها والمحتفظ بها حاليا في مجموعات البلديات الوطنية والمحلية في بريطانيا.

ويقول إن أكثر القطع الأثرية إشكالية هي تلك التي سرقها البريطانيون أو نهبوها أو نقلوها من موطنها الأصلي بعد إخضاع سكان محليين.

ويضيف: “في هذا البلد، أنت لست ببعيد على الإطلاق عن قطعة أفريقية منهوبة”.

“عنيف جدا”

وكانت متاحف بريطانية قد تلقت طلبات من استراليا وآسيا وأمريكا الجنوبية لاستعادة قطع، بيد أن تلك التي جاءت من أفريقيا هي الأكبر من حيث التقييم، وفقا لهيكس.

ويقول: “نحن بحاجة إلى التفكير بعمق في القطع (التي جاءت من أفريقيا)، إذ تبين الحصول عليها كغنائم حرب، وعلى الرغم من ذلك، يمكنك إعادة صياغة الملصقات وإعادة سرد التاريخ، ولن تستطع سرد قصة أخرى بعيدا عن تحقيق نصر عسكري، وفي تلك الحالات، نحن بحاجة إلى العمل من أجل عملية استرداد”.

ويضيف هيكس أنه يواجه حقائق مزعجة عن بريطانيا الاستعمارية، وإمبراطورية بنيت على العبودية وقمع الشعوب الأصلية في جميع أنحاء العالم.

ويقول إن بعض الزوار المحتملين لمتحف “بيت ريفرز” أخبروه أنهم لن تطأ أقدامهم المتحف لأنه “عنيف جدا”، في إشارة إلى القطع المعروضة التي حُصل عليها كغنائم حرب .

ويضيف هيكس: “يتعلق ذلك، على وجه التحديد، بفترة كانت تستخدم فيها متاحف الأنثروبولوجيا عندنا لأغراض عنصرية مؤسسية، وعلم الأعراق، واستعراض تفوق ذوي البشرة البيضاء. في هذه الفترة من التاريخ، لم يكن الأمر ملحا لإزالة مثل هذه الرموز من مؤسساتنا”.

ومن بين هذه القطع ما يعرف باسم “بنين برونز”، أو “كنوز بنين”، التي تعد أبرز مثال على القطع الأثرية المنهوبة، التي أخذها الجنود البريطانيون بعد شن غارة تأديبية دموية على مملكة بنين القديمة (في نيجيريا الحديثة) عام 1897 .

ويدور في ذهن هيكس، من دون شك، فكرة ضرورة إعادة “كنوز بنين”، وهي فكرة يشاركه فيها الفنان البريطاني النيجيري الأصل، ينكا شونيبار، الذي يرى أن تلك القطع التي يحتفظ بها المتحف البريطاني يجب عمل نسخة ثلاثية الأبعاد منها وعرضها في لندن، وإرجاع القطع الأصلية إلى نيجيريا.

ويقول: “إنها مسألة احترام ومساواة في التعامل. إذا سرقتم تراث شعب فإنكم تسرقون نفسيته، ويلزم إعادة ذلك”.

ولا يوافق على ذلك هارتويغ فيشر، مدير المتحف البريطاني، وعلى الرغم من موافقته على أن نيجيريا قدمت طلبا لاستعادة “كنوز بنين”، إلا أنه لا يعتقد ضرورة إعادة ملكيتها.

ويعتقد أن أفضل طريقة للمضي قدما في هذا الشأن هي التعاون الوثيق بين المتحف البريطاني ونظرائه في نيجيريا، الذين سيعيرهم “كنوز بنين” لفترة طويلة.

ويقول إن ثمة مناقشات جارية حاليا، وتنطوي على تبادل أوسع للأفكار والمعرفة.

وكانت الكاتبة المسرحية بوني غرير، نائبة رئيس المتحف البريطاني لمدة أربع سنوات، على دراية بالجدل الدائر بشأن مجموعة “كنوز بنين”.

وتقول: “أنا مرتاحة لوجودها هناك (في المتحف البريطاني)، إن ما يفعلونه من أجلي، بصفتي حفيدة لعبيد، يمنحني راحة وتواصل”.

وتضيف: “أنظر إليها وأرى نفسي، ما أشعر به عندما أرى قطعا أفريقية في متحف غربي، يمنحني العزاء.”

ولا تعتقد غرير أن “كنوز بنين” يجب أن تظل بالضرورة في المتحف البريطاني إلى الأبد، وتقول إن المتاحف في جميع أنحاء البلاد “يجب أن تكون مثل الراقصين على أصابع القدم، على استعداد لإعلان الحقيقة، وعلى استعداد للانصات، وفتح باب”.

وتضيف أن ثمة حاجة إلى تنوع أكبر في الرأي والتفسير في جميع متاحف البلاد.

وتقول: “لا يقتصر التنوع على توظيف السود أو الأشخاص الملونين في المؤسسات، انصتوا إليهم، نفذوا ما يقولونه، يوجد كثيرون يدرّسون تاريخ السود، ويعرفون الكثير”.

وتضيف: “افتحوا لهم الباب، دعوهم ينظمون دورات تدريبية، وأن تكون لهم تفسيرات مناقضة لقطعة ما”.

وتقول سارة واجد، مسؤولة في متحف لندن وعضوة في متحف “ديتوكس”، وهي شبكة تضم الأشخاص الملونين الذين يعملون في المتاحف، إنه يوجد تنوع بسيط للغاية في المناصب العليا داخل المؤسسات الثقافية في بريطانيا.

وتضيف: “في معظم المتاحف، ترى العاملين السود فقط في أماكن النظافة والأمن، لن تراهم في أقسام التنظيم، ولن تراهم في الإدارة”.

وتقول: “لذا، تعد الخطوة الأولى تجاه متحف خال من الاستعمار هو وجود سود وآسيويين وأناس من أقليات عرقية في صفوف القيادة”.

ويدعم المتحف البريطاني حجتها، ويصفه فيشر بأنه متحف للعالم، لكنه يعترف بأنه لا يوجد أمناء متحف سود بين طاقم الأمناء الذي يتألف من نحو 150 شخصا، ويضيف إنها “قضية كبيرة نحتاج إلى معالجة”.

ويعتقد شونيبار أن عدم وجود أمناء متحف سود في المتحف البريطاني أمر غير مقبول، ويضيف: “يوجد كثير من الأشخاص مؤهلين لأداء هذه المهمة، وأعتقد أن هذا من الأشياء التي يجب أن ينظر إليها المتحف، فكما تعلمون، إذا كانت حياة السود مهمة حقا، فسوف تؤخذ هذه القضايا على محمل الجد”.

ويوافق فيشر على ذلك، ويقول أيضا إن المتاحف في بريطانيا تسير في الاتجاه الصحيح، وهو يعتبر بريطانيا “في طليعة جعل المتاحف شاملة”، بعد أن قدمت بالفعل “مساهمة كبيرة في التواصل، ومخاطبة مختلف المجتمعات”.

ويعد المتحف البريطاني، كما هو الحال بالنسبة للعديد من المؤسسات الثقافية في بريطانيا، ثمرة الماضي الاستعماري للبلاد، بما في ذلك مشاركتها في تجارة الرقيق.

أُنشيء المتحف، الذي يقع في منطقة بلومزبري في العاصمة لندن، على أساس عرض مجموعة السير هانز سلون، الذي كان رجلا ثريا حقق ثروته الطائلة بشكل رئيسي من مزارع يعمل فيها عبيد في جزر الهند الغربية.

ومكنته ثروته الهائلة من الحصول على العديد من القطع الثمينة التي شكلت عند وفاته، 71 ألف قطعة، أساسا لمجموعة عرض في المتحف البريطاني، وأيضا في متحف التاريخ الطبيعي في منطقة ساوث كينسينغتون.

ويقول فيشر: “الحقيقة التاريخية التي يجب أن نتعامل معها هي أن العبودية كانت جزءا لا يتجزأ من الاقتصاد الأوروبي لقرون، هذا شيء يلزم الاعتراف به ويجب معالجته”.

ويضيف: “نحن بحاجة إلى توسيع النطاق، نحن بحاجة إلى تعميق العمل والنظر في تاريخ مؤسستنا ككل”.

ويوافق شونيبار قائلا: “نعيش في عالم متعدد الثقافات، يجب أن تعكس المتاحف ذلك التاريخ وهذه القصة. كيف وصلنا إلى هنا؟ من أين جاءت الثروة؟ من المهم للغاية أن تقوم المتاحف بهذا العرض”.

ويعتقد الفنان أن وفاة جورج فلويد والاحتجاجات التي أعقبت الواقعة هي بداية لحركة جديدة ستشهد تغييرا في المجتمع.

مناقشات “مذهلة”

يقول فيشر: “ما نشهده يعد تحولا كبيرا في الإدراك، و(معالجة) لمشكلة كبيرة للغاية، إنها العنصرية التي يجب معالجتها”.

ويعتقد أن متحفه يمكن ويجب عليه أن يبذل المزيد من الجهود، بيد أنه يقول إن التغيير لا يحدث بين عشية وضحاها.

وبحسب سارة واجد، فإن ذلك يحدث، وتقول : “تُجرى بعض المناقشات الجادة والصريحة على نحو غير معتاد بين شبكات موظفي المتاحف من السود والآسيويين والأقليات العرقية من جهة، وبين المديرين والقادة، معظمهم من البيض، بشأن موقفهم فيما يتعلق بحياة السود، ومكافحة العنصرية، وإنهاء استعمار مجموعات العرض في المتاحف”.

وتضيف: “كنت أعمل وأنظم حملات من أجل تحقيق أكبر قدر من المساواة في قطاع الثقافة على مدى السنوات الـ 25 الماضية، لكن حالة الصدق والمناقشات الغاضبة للغاية التي سمعتها (على مدار الأسابيع الثلاثة الماضية) تعد أمرا مذهلا”.

كما يشهد هيكس تحولا في الفكر، ويقول: “يوجد تحول بين الأجيال بشأن (إدراك) الفنون والثقافة والتراث، كان مقبول في الماضي، ربما قبل جيل، التحدث عن الاقتراض ومواجهة الإمبراطورية، والاستعانة بهذه القطع لسرد القصة بشكل أفضل”.

ويضيف: “يوجد جيل جديد الآن لا يهتم بذلك، ويرى المتحف نهاية لفكرة قديمة، ولا يجب أن نعتقد أن متاحفنا غير قادرة عن التطور والتغيير”.