الراعي: ماذا يعني هذا القضاء الانتقائي؟.. الذين لا يملكون ارضا يستطيعون الاستفادة من أوقاف الكنيسة

ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، قداس الأحد في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي، بمشاركة لفيف من المطارنة والكهنة.

بعد الإنجيل المقدس، ألقى الراعي عظة الأحد السادس من زمن القيامة – تذكار سيدة الزروع، بعنوان “الحب الذي وقع في الأرض الجيدة أثمر ثلاثين وستين ومئة”. وقال: “نحيي اليوم تذكار سيدة الزروع الذي تعيده الكنيسة في الخامس عشر من هذا الشهر. فنتأمل في إنجيل الزارع، حيث الرب يسوع يشبه كلمة الله التي يكرز بها بحبات الحنطة التي إذا وقعت في الأرض الجيدة أثمرت ثلاثين وستين ومئة (مر 8:4). في ليتورجيتنا المقدسة نشبه أمنا مريم العذراء بالأرض الطيبة التي قبلت كلمة الله الذي أخذ منها جسدا وصار خبزا لحياة البشر (راجع تقدمة القرابين في القداس الماروني)”.

أضاف: “يسعدني وإخواني السادة المطارنة والأسرة البطريركية في بكركي أن نحتفل بهذه الليتورجيا الإلهية، ونحيي كل المشاركين فيها عبر وسائل الاتصال مشكورة. ونلتمس معا من الله أن يجعلنا بنعمته أرضا جيدة، لنتقبل دائما في قلوبنا كلمة الله التي نسمعها أو نقرأها، فتعطي ثمارها فينا. وهي ثمار الأعمال الصالحة، والمبادرات البناءة، والمواقف المنقذة. يحذرنا الرب يسوع في هذا المثل من ثلاث حالات تعطل فينا ثمار كلمة الله: الحال الأولى، عدم الاكتراث لكلام الله وإهماله، فيسقط ويفقد حيويته، عند أول مصلحة شخصية. هذه حالة الحب الذي يقع على قارعة الطريق وتأكله الطيور. الحال الثانية، السطحية التي تخلو من عمق روحي، ومن صلاة الاتحاد بالله. فلا تستطيع كلمة الله أن تثمر في القلب. هذه حال الحب الذي يقع على الصخرة وتحرقه الشمس لأنه من دون تربة ورطوبة. الحال الثالثة، الاهتمام المفرط بشؤون الأرض من مأكل وملبس وعمل، وملاهي الحياة الدنيا. إنها حال الحب الذي يسقط بين الأشواك فتخنقه وتحرمه من فاعليته في النفوس. لكن الرب يسوع يدعونا لنكون مثل الأرض الجيدة التي تقبل الحب وتمكنه من إعطاء ثماره ثلاثين وستين ومئة. هذه حال العقول المنفتحة على الله لتقبل الحقيقة المطلقة، والإرادات المستعدة للعمل بموجب الكلام الإلهي، والقلوب النقية المهيأة لقبول سر الحب الذي تزرعه فينا كلمة الله. إن أمنا وسيدتنا مريم العذراء تجسد بامتياز وبكمال هذه الحال. فقد قبلت كلمة الله أولا بإيمان وحب في قلبها، فأصبحت الكلمة جنينا في حشاها. وهكذا الكلمة صار جسدا، وسكن بيننا (يو 14:1)، يسوع المسيح. ومن ناحية أخرى اختار المسيح الفادي الخبز والخمر، المكونين من حبات قمح وحبات عنب، جمعت، وعصرت، وخبزت. فأصبحت مادة قربانية لاستمرارية ذبيحة الفداء لكل الجنس البشري، ووليمة خلاص للحياة الإلهية في النفوس المؤمنة”.

وتابع: “من هذه الصورة اللاهوتية، ندرك أهمية زراعة الأرض، التي سلمها الله الخالق للانسان لكي يحرثها ويعيش من ثمارها. وفي الواقع، كل مأكل البشر وشرابهم هو من الأرض وزراعتها، على أساس من العلاقة الروحية الصافية والعلاقة العلمية المتطورة مع الأرض. وباتت الأرض تشكل، عبر هذه العلاقة المتعددة، عنصرا جوهريا من هويتنا الوطنية. هذا ما ذكرنا به المجمع البطريركي الماروني (2003-2006) الذي أفرد نصا خاصا بعنوان: الكنيسة المارونية والأرض. هذا النص كان حافزا للبطريركية والأبرشيات والرهبانيات وللعديد من أبناء الكنيسة لاستثمار أراضيهم في حقل الزراعة، فضلا عن قطاعات أخرى. ما أفسح في المجال للعديدين من أبنائنا من القيام باستثمارات متنوعة، ومن إيجاد فرص عمل، والمساهمة في الاقتصاد الوطني”.

وقال: “اليوم، حيث حالات البطالة والفقر تفاقمت بشكل مخيف، وجنون أسعار السلع الغذائية على تصاعد غير مقبول، والقيمة الشرائية لليرة على هبوط مروع، باتت العناية بالزراعة حاجة أولية. والكنيسة تضع أراضيها وإمكاناتها بتصرف المجتمع بجمعياته وتعاونياته لاستثمار هذه الأراضي زراعيا، وتأمين الغذاء، ولا سيما أن لبنان يعتمد على استيراد 70% من حاجته الغذائية. من أجل هذه الغاية عقدنا اجتماعا في بكركي في شهر نيسان من العام الماضي، مع الأبرشيات والرهبانيات والمدير العام لوزارة الزراعة، وأطلقنا خطة لاستثمار أراضي الكنيسة القابلة للاستصلاح الزراعي بالتعاون مع الكليات الزراعية والجمعيات الأهلية والتعاونيات المناطقية والتنسيق معها، من أجل تأمين الاكتفاء الذاتي من الغذاء. وإنا بذلك نعيد اللبناني إلى الأرض، ونخلق فرص عمل للشبيبة، ونخفف من بيع الأراضي والهجرة. وإن لجنة الزراعة المنبثقة من لجنة الإغاثة البطريركية، تتولى مع المركز البطريركي للتنمية البشرية والتمكين ومكتب راعوية الشبيبة في الدائرة البطريركية، العمل على تنظيم دورات تدريبية للشباب مع مرافقة وتوجيه ودعم ومساعدة. فالذين يمتلكون أرضا يستثمرونها، والذين لا يملكون يستطيعون استعمال شرفة منازلهم، فضلا عن الاستفادة من أوقاف الكنيسة”.

أضاف: “ندعو الدولة إلى دعم القطاع الزراعي كركن أساسي في الاقتصاد الوطني، وحمايته من المضاربة الخارجية، وتصدير الفائض منه، علما بأن أكثر من ثلث سكان لبنان يعيشون من الزراعة. فيجب بالتالي تأمين حاجات الغذاء لكل الشعب، مما يقتضي تفعيل التعاون بين الدولة من خلال وزارة الزراعة، والمنظمات الدولية والبلديات والجامعات وغرف التجارة والنقابات، للنهوض بالقطاع الزراعي وتأمين شبكة الأمان الغذائي، وتوفير مواد أولية للمصانع الغذائية”.

وتابع: “الأرض أم ومعلمة. هي أمنا تحتضننا وتقوتنا. وهي مدرستنا تعلمنا الصدق والعطاء والسخاء. فلا تقبل الزغل: إن صدقنا معها صدقت، وإن احترمنا شريعتها الطبيعية سخت. الأرض تسهم بطريقة مباشرة في أنسنة الإنسان، وتطبعه بطابعها. فمن الضرورة أن يتتلمذ كل شخص في مدرسة الأرض لكي يعيش ملء إنسانيته في ما يسند إليه من مسؤوليات في المجتمع والكنيسة والدولة. كم يؤلمنا فقدان وجه الأنسنة عندنا في لبنان. وأود أن أذكر بنوع خاص ممارسة بعض القضاة الذين يقضون من منظار سياسي أو انتقامي أو كيدي، من دون أي اعتبار لكرامة الأشخاص وصيتهم ومكانتهم ومستقبلهم. من أين هذه الممارسة الدخيلة: اتهام وتوقيف في آن من دون سماع المتهم؟ أو فبركة ملفات مع أمر بالتوقيف؟ هل تحول نظامنا من ديموقراطي يؤمن للمواطن كل حقوقه المدنية والقانونية إلى نظام بوليسي، ديكتاتوري يطيح بالمبدأ الأول في حياة كل أمة: العدل أساس الملك؟ وما هذا الإفراط بالسلطة القضائية، وبخاصة إذا علت؟ إلى من يشتكي المواطن المظلوم؟ أإلى زعيمه السياسي ليحميه؟ وإذا لم تكن له مرجعية سياسية، أيبقى ضحية الظلم موقوفا صامتا، صاغرا؟ وماذا يعني هذا القضاء الانتقائي؟ ثم أين أصبحت التعيينات القضائية التي كنا ننتظر معها بزوغ فجر جديد يحمل إلينا قضاة منزهين، أحرارا، متزنين، وغير مرتهنين لأشخاص أو لأحزاب؟”

وختم: “نصلي إلى الله، لكي يحمي أرضنا اللبنانية، أمنا ومدرستنا، لتظل أرض الأنسنة وكرامة الإنسان”.