ع هدير البوسطة من بيروت لتنّورين.. قلعة مارونية بين صدى الطبيعة وسندان السياسة!

لأن قانون الطبيعة هو الغريزة التي تجعلنا نشعر بالعدالة قررنا أن نسرح في الطبيعة علّنا نفهم كُلّ شيء أفضل ونشعر أكثر بعدالةٍ ننشدها قبل الخبز غالباً. تعالوا معنا في رحلة “ع هدير البوسطة” نقلتنا من بيروت وحملايا لتنورين لنختبر شعورا غريباً ونحن نُصغي الى صوت فيروز باشتراكِ لغة الطبيعة، كما لغة الموسيقى، في جعل الإنسان يتجاوز كل الحدود السياسية والزواريب الضيّقة ويغرق في فرحٍ إستثنائي. و”يخرب” بيت عيونك يا وطن شو حلوين”!

تبعنا، مجموعة زملاء وأصدقاء ننضوي تحت خيمة “نداء الوطن”، نداء الطبيعة وانطلقنا في رحلة شمالية الهوا والهوى نحو الجرد العالي. السائق جان أقلّنا طارحاً سؤالاً أوّل: أنتم الصحيفة التي تُحاكم؟ إبتسمنا له. وانطلقنا.

نقلبُ في صفحات التواصل الإجتماعي ولا نلتقط سوى الأخبار السيئة. البنزين مهدد دائماً بالإنقطاع والخبز مهدد باللحاق به والحياة بكاملِها مهددة. نقفل هواتفنا علّنا ننسى، ونفتح هوائي الأغنيات التي تأخذنا الى مكان آخر. وصوتُ وائل كفوري يُساهم في بلسمة الأفكار بأغنية “عندي بيت براس الجرد”. الجرد نفاذ من الحاضر وانتشال للكثيرين من سخافات زحمة الحياة في غالبِ الأحيان.

السير مفتوح. هي نقطة ٌ إيجابية. نقطع ضبيه، جونية، مفرق النمورة، جبيل، نصل الى حاجز الجيش اللبناني عند المدفون. نقرأ عبارة “شرف تضحية وفاء”. نتنفس الصعداء. البزة العسكرية تبعث دائماً على الإطمئنان. تصدح أغنية “ما في ورد بيطلب ميّ الورد بيبقى سكوت، إذا ما سقيتو شوي شوي عالسكت بيموت”. رحم الله ملحم بركات. نتابع صعوداً صعوداً نحو تنورين. نعبر الى جانب إدارة حصر التبغ والتنباك. اللون الأخضر يتمدد. لبنان جميل جميل. شجر الزيتون يمنح الجبال هيبة. أشجار سنديان وشربين وشوح وصنوبر. رائحة الأرض أجمل من كل العطور. مناطق كثيرة نشعر وكأننا نعبر فيها أوّل مرّة وأسماء تلفتنا: عرطز، راشكده، كفرشيلمان، دوما- آسيا، ياريتا، الشريفة (آسيا)… يبدو أن بين آسيا والبترون وتنورين أسراراً. تطل علينا بساتين العصي. نعبر أمام مستشفى تنورين ونتمهل أمام آرمة: تنورين ترحب بكم. ونقرأ فيها: تبعد عن بيروت 80 كيلومتراً وترتفع عن سطح البحر بين 850 متراً و2750 متراً. يستغربُ كلّ من قرأ آخر رقمين الفارق بينهما ما يشي أن تنورين ليست أبداً، في تنوعِها، مثل سواها.

تنقسم تنورين الى إثنتين: تنورين الفوقا وتنورين التحتا لكن الدم واحد. الوديان التي سكنها الرهبان الموارنة على الميلين والكنائس كثيرة. أكثر من خمسين كنيسة في الأرجاء. تطل الطريق على نهر الجوز. المقاهي حول النهر كثيرة. مركز تنورين للتسلّق هنا. وشاتين، بلدة الجنرال شامل روكز، تلوح من بعيد.

ثمة جبل مسنن يقطع الدرب. هنا بلاطة مارضومط التي تعتبر أحدى أكبر البلاطات في لبنان. هناك من يُسميها “البلاطة- الرأس”. نلتقط الصوّر الى جانبها في زمنٍ زادت فيه “الرؤوس” وقلّت العقول. نصل الى منطقة “وطى حوب” أو منطقة الحبّ. من هذه البقعة يمكننا رؤية ساحل البترون وصولاً الى شكا. الأديار هنا كثيرة ودير مار أنطونيوس حوب أقدمها. والتفاح يتدلى على الأشجار في كل مكان. عرائش العنب أقل بكثير لكن مذاق ما وُجد إستثنائي. منتجات هذه الأرض كثيرة والجوز، في السلال، يتصدّر أينما مررنا أو حللنا.

نصل الى دير مارأنطونيوس حوب. رئيس الدير هو الأب ميشال ليان والأب نبيه خوري في الإستقبال. خمسة آباء ثابتين في الدير. نجول معه في الأرجاء. يُخبرنا عن أصل الدير وفصله. وقبل أن نغادر نسأله عن الطرقات الواسعة الشاسعة التي باتت تربط البترون التحتا بالبترون الفوقا وبكثير من المناطق. فهل هو وزير الخارجية ونائب البترون جبران باسيل من أنجز ما اُنجز؟ يجيب: كان مقرراً كلّ هذا قبل جبران باسيل. ويستطرد: في إحدى الجلسات طرحوا جدول أعمال يخلو من طرح إلتزام طريق تنورين فوقف الشيخ بطرس وقال لهم: لن يمشي هذا الجدول بلا تنورين. فأجلوا الإقرار الى جلسة لاحقة لم يكن فيها الشيخ بطرس، وكان جبران، الذي لم يطالب في الجلسة ولم يمانع، وحين أقرّ الإلتزام خرج و”زقزق” مهنئاً أهالي تنورين! هذه كلّ الخبرية.

نجول في التفاصيل أكثر. ثمة أوتوسترادات رائعة. نتابع طريقنا فنجد طرقات تحت الإنماء والتعبيد والتأهيل. أحد “التنوريين” يحاول أن يشرح للسائح في الأرجاء طبيعة الإلتزامات التي طالت طرقات منطقته: بدأت الأعمال “الحديثة” قبل عشرين عاماً تقريباً، في العام 2000 بالتحديد، في البقعة التي تربط بين بلدة ياريتا وصولاً الى تنورين التحتا. وتتابعت في العام 2008 بين ياريتا وبجدرفل أيام أنطوان زهرة وبطرس حرب. ثم أكملوا الأعمال في 2011 من البترون الى بجدرفل أيام جبران باسيل. وبمسعى من بطرس حرب، أقرت حكومة تمام سلام، التي كان فيها حرب وزيراً للإتصالات، الأعمال بين أوّل تنورين وتنورين الفوقا. وأنجزت الطريق رسمياً يوم دشن رئيس الجمهورية ميشال عون عام 2017 افتتاح “بيت الراحة” في جربتا. وهناك بعض الطرقات ما زالت “لا معلقة ولا مطلقة” في انتظار القرار السياسي… عفواً قرار الإلتزام… وهي التي تفتقر لأول مرة، منذ ستينات القرن الماضي، لنائب تنوري الأصل والفصل في المجس النيابي.

لا سياسة من دون إنماء ولا إنماء بلا سياسة. هذا هو لبناننا.

نتابع طريقنا في اتجاه محمية أرز تنورين. سيدة حريصا في درعون وفي تنورين أيضاً. هي رابضة على تلّة قبالة محمية أرز تنورين. وهناك يتحدثون عن نقل صورة السيدة من تنورين الى درعون لكنها كانت تعود في كل مرّة الى مكانها. نرسم شارة الصليب ونتابع صعوداً نحو أرز تنورين.

هناك، على بعد نحو تسعين كيلومتراً من بيروت، غابة تتمدد على مساحة 620 هكتاراً تضم مليوناً و500 ألف شجرة أرز. أتتخيلون ما قد يشعر به إنسان يجول تحت شلوح أشجار الأرز الخالدة؟ هناك، أكثر من 16 نوعاً من الثدييات بينها أرانب وسناجب وثعالب وقطط برية وقنافذ. وأوّل ما نلقاه حين ندخل الغابة أرزة صغيرة باسم الوزير فادي جريصاتي (التاريخ 2019). نجوب في الأرجاء. نحاول أن نتنشق ما يمكن من هواء نظيف. شاكيرا مبارك مرّت من هنا. الفنانة داليدا كُرّمت هنا. مايا رعيدي ملكة جمال لبنان 2018 زُرعت باسمها أرزة ورُكزت بلاطة كُتب عليها باسمِ لجنة محمية أرز تنورين: “ملكة عالأرزات زرعوكي”. ننظرُ الى الأرزات المتعملقة شموخاً ونتابع المسار. مجموعات كثيرة تسرح في الأرجاء وصدى ضحكات، تخرج من قلب القلب، تشدنا. هم مجموعة رجال ونساء، كانوا طلاباً في مدرسة الدليفراند عاريا والتقوا بعد ثلاثين عاماً. وقرروا أن تكون رحلاتهم الأولى الى غابة أشجارها لا تموت كما الزمالة التي أسست للقائهم اليوم.

نتابع رحلتنا صوب بلدة شاتين وهو بالوع بلعا هو حيّ من أحياء شاتين. وعند المدخل آرمة: دشن هذا الموقع وزير الطاقة والمياه المهندس جبران باسيل. نحاول أن نقرأ التاريخ عبثاً. ننزل الى البالوع. نتأمل في تكوين الطبيعة. نتأمل في هذه الطبيعة التي أعطاها الله ما لم يعطه لسواها. عند حفافي الطريق التي تؤدي الى البالوع يقف زوج الست ليلى التي لها مقهى آرماته تزيد عن آرمات البالوع. هو ابن شاتين عساف مراد فلندعه يُحدثنا عن هذه البلدة التي قررت حيازة بعض الإستقلالية (عن الشيخ بطرس والزعامات التقليدية) فأسست سنة 2012 بلديتها. يقول: “شاتين هي ضيعة عتيقة، قديمة، وتعني الخمارة أو”السكرانين” لكثرة ما فيها كروم والكلمة آرامية. وفي شاتين معاصر محفورة في الصخر”.

وماذا عن الانتخابات البلدية في شاتين؟ يقال هي “حامية”؟

يجيب: “وشو حامي فيها؟ ما حدا ترشح حتى اللحظة. لو كانت حامية كانوا ركضوا وترشحوا. هنا نتعامل كعائلات ونحاول أن نتفاهم” ويستطرد: “أنا وشامل (الجنرال شامل روكز) اقارب كنا صغاراً وكبرنا معاً وهو ابن الضيعة وكلّ الضيعة، بكلِ تركيباتها، معه”.

وماذا عن حضور الوزير جبران باسيل الذي بنى منزلاً مقابل منزل الجنرال في شاتين- اللقلوق؟

شامل هو (أكرر) ابن الضيعة وكلنا معه اما جبران باسيل فهو حالة سياسية ولا يمكن المقارنة بين الاثنين. وجود شامل له بعد أهلي ووجود جبران سياسي. ويستطرد: ما نعيشه اليوم هو الأسوأ في تاريخ لبنان.

نغادر تنورين. نغادر إحدى قلاع الموارنة. بعد ان ارتوينا من شرب مياه “عين روما” التي حيّرت العالم بسبب المياه التي تجري في ما يُشبه الجرن ولا يُعرف من أين تأتي. لكن، هناك “ختيار” يُخبر: مرّ يسوع المسيح من هنا وقال للمياه: اطلعي يا مباركة. فخرجت وملأت السهلات. ثم عاد وقال لها: ارجعي يا مباركة فعادت. ومن يومها لم تنشف العين.

هي تنورين الجميلة الراكدة على كلّ مقومات جاذبية الطبيعة منذ تكونت الأرض… وقبل كلّ ساسة الأرض…

الأب نبيه خوري : هذا تاريخ دير حوب… وشاتيـن أرادت الإنتقام!
لا عبور في تنورين من دون استراحة في «دير حوب» ( في ضيعة «وطى الحوب») والإصغاء الى كاهن الدير الأب نبيه خوري: تتحدر حوب من كلمة سريانية معناها حوبو أو «منطقة الحبّ». ودير حوب يتبع الرهبنة اللبنانية المارونية التي تأسست عام 1695 وهذا الدير هو خامس دير في تاريخ الرهبنة، وأوّل دير في منطقة جبيل والبترون للرهبنة اللبنانية المارونية. تسألون لماذا بنينا هذا الدير؟ لأننا، وببساطة شديدة، نرتفع حيث نقف الآن نحو 1400 متر عن سطح البحر. وأعلى دير بالنسبة الى رهبنتنا هو دير حوب، في الشتاء ثلج، وبطلب من أهالي تنورين بنينا ديراً ومدرسة من أجل تعليم أولادهم. وبطلب من الرهبنة بنينا مدرسة. وبدأت الرهبنة بتشييد الدير عام 1749 أي من مئتين وسبعين عاماً. وأتى أولاد تنورين ليتعلموا ومن جملتهم نعمة الله الحرديني لأنه كان يسكن أحياناً في منزل جدّه في تنورين ويتعلم في الدير. وأتى الأخ الطوباوي أسطفان نعمة ثلاث مرات الى هنا وسكن في الضيعة. جوّ تنورين جميل جداً. صدقوني هي أجمل ضيعة في كلِ العالم، ليس بدكاكينها وأبراجها بل بطبيعتها. تبدأ منطقتنا من 850 متراً إرتفاعاً وتصل الى 2850 متراً. وحدودنا تصل الى اليمونة وجرد العاقورة وحدث بعلبك. ضيعنا فيها تنوّع كبير بمناخها. تنورين ضيع عدة وكل ضيعة لها منطقة عقارية مستقلة. وطى حوب منطقة عقارية. شاتين منطقة عقارية. تنورين التحتا منطقة عقارية. إنما ننتمي كشعب تنورين الى نفس العيل فتجدون بيت حرب ومراد وداغر ومطر ويونس وطربيه ورعيدي. لذلك لها بلدية واحدة لكنهم فصلوا شاتين عن تنورين في الفترة الأخيرة لكنهم عادوا وندموا خصوصاً حين يُسألون: من أين أنتم فيجيبون: من شاتين. فيُسألون مجدداً: من أين يعني. وحينها يردون: من تنورين.

تنورين هي البداية وهي الأصل والجذور. ولماذا فعلوا ما فعلوا وقرروا الإستقلال عنها؟

لا يريدون البقاء تحت سلطة الشيخ بطرس حرب. هذه هي كلّ الخبرية. مع العلم أينما أذهب في كل أرجاء العالم يقولون لي حين يعرفون أنني من تنورين: لديكم الشيخ بطرس حرب. صيته في العالم مثل المسك.

ويضيف الأب خوري: تضم تنورين مستشفيات ومدارس ومحابس حول الأديار. عنا ثلاثة حبساء. ويسموننا الرهبنة- البلدية. نحن والمريمية، اللويزة، كنا رهبنة واحدة انقسمنا عام 1770. هم كانوا يُسمون الرهبنة الحلبية المارونية ونحن الرهبنة البلدية وهناك صكوك دوّن عليها الرهبنة البلدية لذلك يوم انقسمنا أخذوا هم روما وأخذنا نحن قبرص لأننا نريد أن نكون دائماً مع شعبنا. فأينما وجد الموارنة وجدنا. هذا جوهر رسالتنا مع شعبنا. وعندنا ثلاث إرساليات في أفريقيا.

بُني الدير على مراحل، وهناك تمثال مارتينوس طربيه على باب الكنيسة، هو راهب مهم جداً جداً جداً، من أذكى الرهبان في تاريخ الرهبنة وهو من تنورين، أيام طانيوس داغر التنوري الذي كان رئيساً عاماً بين عامي 1913 و 1926 ومارتينوس كان وكيلاً عاماً معه.

وطانيوس كان رجل الله، قديساً، وقام بعجائب كثيرة أما مارتينوس فكان المخّ المدبر الإداري. ويوم اتى الجراد وحدثت المجاعة في لبنان رهنت رهبنتنا كل اموالها للدولة الفرنسية كي تساعد الشعب. وعمل مارتينوس ريّساً عاماً من 1926 حتى 1939. كان ينزل الى جبيل، الى المينا، لاستلام المعونات. لذلك لم يمت احد من الجوع في جوار الأديار. وحين انتهت الحرب وذهبنا لتنفيذ الرهن قالت فرنسا لا نقبل ان تكون الرهبنة أكرم من الدولة الفرنسية على اللبنانيين وردّت الرهن. هذا تاريخ يفترض ان تعرفوه لتدركوا كم كانت الرهبنة دائماً الى جوار الشعب. كل أراضي «وطى الحور» مملوكة من الرهبنة. مستشفى تنورين أرضها أيضاً للدير. ويقول الأب خوري: قدمنا لهم 18 ألف متر لبناء المستشفى. وفي كل مرة يكون هناك أي مشروع إنمائي للناس نكون أوّل من يساعد. نخرج من الدير فنرى عائلات تنوي إعداد تبولة وفتوش أتى أفرادها لأخذ بقدونس طازج وبصل سلموني. قطفوا وغادروا. أوّل دير في تنورين مفتوح للجميع.

نداء الوطن – نوال نصر